القوى العراقية نحو فرز أعمق
تتابع الحكومة العراقية المؤقتة مضيها بخُطى إعادة ترتيب المنظومة وفق المعادلات الجديدة، عبر التوجّه غرباً بعكس كل الضرورات الموضوعية، التي تُشير بعكس ذلك تماماً بالنسبة للمصلحة العراقية، مما يزيد من حدّة الصراع والفرز بالداخل.
كان من السخرية بمكان قول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من العاصمة العراقية، خلال زيارته إليها مطلع الشهر الجاري، بأن «التدخل الخارجي يشكّل التحدّي الأكبر» بالنسبة للعراق، بالوقت الذي دعا فيه «المجتمع الدولي لدعم العراق» باعتباره «يمتلك إرادة إصلاحية واضحة»... فيخطر على بال أيّ متتبعٍ سؤالان حول هذه التصريحات: ماذا يقصد السيد ماكرون بالـ «مجتمع الدولي» تحديداً؟ وما علاقة ذلك بشرط «الإرادة الإصلاحية» للعراق- فضلاً عن جزئية «الإصلاح» نفسها- إن لم يكن تدخلاً مباشراً بشؤونه الداخلية؟
موارد طاقة وعلاقات عسكرية
بيد أن الحكومة العراقية لم تبدُ مستغربة اتجاه هذه تصريحات، بل على العكس، حيث جاء رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، نجيرفان بارزاني، مسرعاً إلى بغداد للقاء السيد الماكرون باحثاً معه سبل تطوير العلاقات بين الإقليم وفرنسا عبر الحكومة الاتحادية العراقية، وليبحث السيد ماكرون مع رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، بمبادرة من الأخير، مشروع بناء محطة طاقة نووية لمعالجة نقص الكهرباء، تحت إشراف وكالة الطاقة الذرية، ويبحثون أيضاً سبل التعاون في مجال الطاقة عموماً، ومشروع بناء مترو لبغداد، بالإضافة لتقوية العلاقات العسكرية بين البلدين.
الحديث عن مصادر طاقة كهربائية بالنسبة للعراق ليس بالشيء الجديد، وهو بطبيعة الحال أمرٌ داخلي وسيادي، إنما المشكلة تكمن في تسييس حاجة البلد وشعبه لهذه الطاقة، سواء بمعيشته أو بقوة إنتاجه، وإخضاعها لمصالح أطرافٍ سياسية ضيقة بوجه أُخرى، بعلاقاتها مع الخارج، ليبدو منطلق النشاط الحكومي هنا ليس بغاية «حلّ مشكلة الكهرباء» في العراق، بقدر ما هو: تقليص استيراد الطاقة الكهربائية من إيران، بغية تقليص وزن وحجم علاقاتها مع بغداد، والاستعاضة عنها بمصادر من «المحفل الآخر الغربي» المشروطة وبتنازلات سياسية كبيرة لا تصب في مصلحة العراقيين، أي أن الأمر السيادي هنا يجري دفعه لتخديم المصالح الخارجية من الداخل أولاً، استمراراً وتعزيزاً لمنظومة الريع «بريمر».
ولا يقف نشاط هذا الشهر عند فرنسا فقط، إنما شمل أيضاً أوكرانيا وألمانيا والأردن ومصر؛ فقد التقى وزير الدفاع العراقي جمعة عناد بممثلين عن الحكومة الأوكرانية لبحث التعاون في مواضع التسليح ومكافحة الإرهاب، أما ألمانيا فقد زارها وزير الخارجية العراقي لبحث التطورات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وقد استمرت المحادثات بين الأطراف الثلاثة العراقية والأردنية والمصرية، حول مشاريع مد خطوط كهرباء إلى العراق بينما يقوم الأخير بتوريد النفط إلى مصر، وتعلن الحكومة العراقية مؤخراً عن نية رئيسها الكاظمي زيارة فرنسا للقاء ماكرون في الشهر المقبل.
من اللافت أيضاً، تناقض النشاط الحكومي مع المصلحة العراقية، ومطالب شعبه بطرد جميع القوات العسكرية الأجنبية من البلاد، حيث تقوم الحكومة عبر جميع لقاءاتها؛ مع الأمريكيين والأوروبيين، ببحث «التعاون العسكري» و«تعزيزه» بدلاً من تقليصه وإنهائه.
3 آلاف جندي، لحظة لا، ألفي جندي أمريكي
على أيّة حال، إذا كانت الحكومة العراقية، ومنظومتها السياسية ككل، قادرة الآن على مناورة الاتجاه الموضوعي والمطالب الشعبية لأسباب تتعلق بـ«قوة العطالة» المتحلية بها مؤقتاً، لعدم نضوج بدائل عنها بعد، فإن القوى الدولية الغربية المتراجعة بعلاقتها مع العراق تسير تماماً تحت ضربات الواقع الجديد- مجازاً، وحرفياً إثر الهجمات الصاروخية المستمرة على قواعدها- نحو مزيدٍ من الانسحابات بغير إرادتها، ومن حدّة هذه التطورات وما أفرزته من انقسام وتناقضات داخل الإدارة الأمريكية كان اختلاف تصريحات المسؤولين الأمريكيين مؤخراً حيال نسبة تخفيض قواتهم العسكرية في العراق، ليقول قائد القيادة المركزية الأمريكية كينيث ماكنزي: إن بلاده ستخفض قواتها إلى 3 آلاف جندي حتى آخر الشهر الجاري، ثم يخرج الرئيس ترامب، بفارق يومٍ واحد، مقلصاً الرقم بألفٍ أخرى عبر تصريحه: «سنخفض قواتنا إلى ألفي جندي في العراق».
السلاح بيد الدولة، أم بيد «بريمر»؟
من المفارقات الأخرى، إطلاق الحكومة العراقية حملة عسكرية من أجل مصادرة السلاح المنتشر في البلاد وحصره بيد الدولة فقط، علماً أن هذا النشاط لا بد من القيام به في نهاية المطاف عبر عملية سياسية توافقية، تأريضاً للفوضى ونزعاً للذرائع، لكنه الآن وبهذه الظروف- بالمثل من موضوعة موارد الطاقة- لا ينطلق من مبدأ أمن البلاد وحماية شعبه، في الوقت الذي تجري فيه استهدافات شبه يومية ومستمرة للقوات الأمريكية المتبقية في البلاد من قِبل قوات المقاومة الشعبية العراقية، تحت ذريعة أن هذا السلاح وما يرافقه يتسبب بعمليات الاغتيال والاقتتال العشائري في البلاد، خاصةً وأن العملية العسكرية حتى الآن شملت محافظتي البصرة وميسان في الجنوب؛ المناطق التي تعتبر نقطة ارتكاز رئيسة لفصائل المقاومة العراقية.
ومن جهة أخرى قال الكاظمي قبل بدء العملية تلك إن «حكومته ورثت تركة ثقيلة من السلاح المنفلت»، ناسباً وِزر هذا الأمر إلى الحكومات السابقة، وكأن هذه الأخيرة، بين كل واحدة وما يتلوها، تمثل حالات قطعٍ لا علاقة لها ببعضها البعض...؟ فضلاً عن تناسي حقيقة وجود قوى عسكرية أجنبية معادية لمصلحة الشعب العراقي، وما يفرضه ذلك من مواجهة موضوعياً.
سامحونا، لا محاصصة هذه المرة فقط
بالتزامن مع كل هذه النشاطات، جرى تغيير عدة شخصيات حكومية كان منها: محافظ البنك المركزي، ووكيل جهاز المخابرات الوطني، وفي حين ظهرت «مخاوف» عبّرت عنها عددُ من القوى السياسية بكون هذه التعديلات تعتمد المحاصصة بتوزيع المناصب، إلا أن الرئيس الكاظمي نفى ذلك، وبهذه يصدقه العراقيون الآن: فالتعديلات هذه المرة كانت تعتمد الولاء الأمريكي بحسب ما وصفها بعض الناشطين.
فضحٌ وفرزٌ أعمق
لا يمكن التنبؤ بما ستنتجه هذه التطورات على الشأن العراقي مستقبلاً، إلا أنه من جهة: يزيد من حدة الفرز بين قوى «بريمر» عبر فضحها وتعريتها، وبين الشعب العراقي بقواه السياسية الجنينية التي تنشأ عنه وتقوم بعملية الفضح تلك، ومن قد يقف بصفّها. ومن جهة أخرى: فإنها تُراكم فوق ما هو مُتراكمٌ أساساً مشاكل وضغوطاً اقتصادية ومعيشية وسياسية على العراقيين، الأمر الذي لن ينتهي إلا بنشوء أزمة سياسية أعمق ما لم يجري التغيير المطلوب... على أيّة حال فإن المنطقة ككل لن تهدأ تماماً وتمضي بتغييرات سليمة إلا بانسحاب آخر جندي أمريكي، وهو ما نتجه إليه، وندفع به جميعاً كشعوب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 984