محاولة لكشف حقيقة الدور الروسي في الأزمة الصينية- الهندية
على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الاشتباكات الهندية الصينية الحدودية التي قتل فيها أكثر من عشرين جندياً وأصيب أكثر من 70، ما تزال تبعات ذلك الاشتباك تظهر إلى اليوم، بخاصة من جانب روسيا- صاحبة العلاقات المميزة والإستراتيجية مع الجانبين الهندي والصيني– التي تعمل على نزع فتيل التفجير من بين القوتين النويتين.
الموقف الأمريكي كضامن!
قبل الاشتباك الأخير في حزيران علق مايك بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية على المناوشات الحدودية بين الصين والهند، بأنها نوع من الإجراءات التي تتخذها الأنظمة الاستبدادية، في الوقت ذاته عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوسط بين الصين والهند، لكن البلدين رفضا العرض الأمريكي. إذ يبدو حتى بالنسبة للمتابع العادي أن الولايات المتحدة غير قادرة على لعب دور الوسيط في نزاعٍ من هذا الشكل، فهي لا تقف على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة، وخصوصاً في ظل العلاقات المتوترة بين واشنطن وبكين، والتي وصلت إلى درجة شديدة الخطورة، وبالتالي ليس من الصعب التنبؤ بأن هدف واشنطن من أي تدخل في تلك البقعة الحساسة سيدفع الأمور إلى تصعيدٍ أكبر، بل إن نزاعاً مسلحاً كبيراً، مثل نزاعٍ صيني هندي هو مطلوب وتحديداً في هذه اللحظات الحرجة التي تعيشها «الإمبراطورية المتداعية». بل يمكن الذهاب إلى أكثر من ذلك إذا ما طرحنا سؤالاً حول احتمال وجود دورٍ أمريكي في هذا النزاع أصلاً، فالهند وعلى الرغم من تقارباتها مع الصين وروسيا وإيران، إلا أن وزناً أمريكاً ملحوظاً يمكن رؤيته حتى اللحظة داخل مفاصل الحكم الهندي، وهذا ما نراه في عدد من الدول التي يلعب الدور الأمريكي داخلها ليقودها إلى حتفها ويعيقها عن السعي إلى مصالحها الحقيقة.
الموقف الروسي
على الطرف الآخر قال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف: إن موسكو لم تكن لديها نية طرح نفسها كوسيط بين البلدين، مضيفاً أنه لا يعتقد أن الصين والهند تحتاجان إلى مساعدة، لأن البلدين أصلاً لديهما كل الإمكانات لحل وتقييم المشاكل التي ظهرت. لكن موقف موسكو هذا لا يعني بشكل من الأشكال أنها لا ترغب بلعب دورٍ فاعلٍ لإيجاد مخرجٍ من هذه الأزمة الخطيرة، فقد أكد لافروف: «إن الاستخدام اللاحق لإمكاناتنا وإمكانات دولنا الثلاث، سيستمر في لعب دور مهم في تحقيق الاستقرار في الشؤون العالمية وسيظل يساعد المجتمع الدولي بأسره في الحل الفعال للعديد من المشاكل الملحة في عصرنا»، فروسيا تمتلك علاقات مميزة ومتوازنة مع الهند من جهة- التي وصفت علاقتهما في عام 2010 بأنها «شراكة استراتيجية مميزة وخاصة- ومن جهة أخرى مع الصين بعلاقات سياسية وعسكرية متينة، ومع حجم تبادل تجاري وصل عام 2019 إلى 110 مليارات دولار. أي أن روسيا معنية أكثر من غيرها في هذا الصراع، فالهند وروسيا والصين لاعبون أساسيون في منظمة «دول بريكس» التي شكّل ظهورها- وتعاون الدول المنضوية ضمنها- ملمحاً أساسياً لم يعد يمكن رؤية العالم الجديد دونه، فكان هذا التحالف تعبيراً عن مصالح الشعوب العابرة للأنظمة، ولا تزال هذه المصلحة قائمةً حتى اللحظة وتزداد تعمقاً. لذلك ترى موسكو أن الهند والصين ليستا بحاجة لوسيط فعلي لتجاوز الخلافات، ومع ذلك قدمت موسكو مجموعة من المبادرات التي تميز سلوكها عن «الجعجعة» الأمريكية الفارغة!
عملية جراحية روسية!
استضافت موسكو مجموعة من اللقاءات المشتركة مع الصين والهند، والتي لم تتخصص لنقاش أزمة الحدود كلياً، بل جرى ضمنها مناقشة لقضايا أكثر اتساعاً، وهدفت موسكو من هذه الخطوة إلى تمتين العلاقات المشتركة كونها صمام أمان حقيقي يمنع تطور الأوضاع بالاتجاهات العسكرية المشؤومة. وجاء لقاء موسكو الأخير في هذا السياق، والذي وإن ترافق ببعض التصريحات التي بدت تصعيداً إلا أنه حمل نتائج إيجابية حقيقية، فقد جرى الإعلان في بيان مشترك عن توصلهما إلى توافق من 5 نقاط يهدف لوقف التصعيد، وإيجاد حلٍ للأزمة الدائرة على الحدود منذ عقود، ولأن موسكو هي من احتضنت هذا التوافق جغرافياً، يعني أنها ستشكل مظلّة لهذا النمط من التوافقات، بل إن موسكو تذهب أبعد من ذلك، فقد قامت روسيا بتوجيه دعوة إلى كلٍ من الصين والهند إلى جانب أرمينيا وبيلاروسيا وإيران وميانمار وباكستان للمشاركة في تدريبات عسكرية في أيلول الجاري في الجنوب الروسي ستحمل اسم «قوقاز 2020»، وعلى الرغم من إعلان الهند أنها لن تشارك في هذه المناورات تحت ذريعة «الصعوبات اللوجستية في ظل وباء كورونا» وبغض النظر عن السبب الحقيقي الذي دفع الهند لرفض الدعوة، إلا أن النقطة الأولى التي لا يجب إغفالها هي الدعوة بحد ذاتها، ففي الوقت الذي تزور وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي الهند، للترويج للصناعات العسكرية الفرنسية بتصرفٍ يليق حقاً بتجار الحروب، تحاول موسكو احتواء هذه الأزمة عبر حشد جميع هذه الدول في جبهة واحدة بوصفهم حلفاء لا أعداء، فالمناورات بالمعنى العسكري والسياسي تعني إجراء تدريب لسيناريو محتمل تقاتل فيه هذه الدول جنباً إلى جنب، وهذه الدعوة تعني دفع هذه الدول التي تعاني بعضها من علاقات متوترة لإيجاد أرضية مستقرة لبناء علاقات متينة وإستراتيجية. ومن نتائج قيام تحالفٍ كهذا لا تنحصر بتبريد الجبهات الساخنة في آسيا، بل أيضاً في ردع المحاولات الخارجية المتهورة من القيام بأية عملية عسكرية هناك.
إن كان الدور الروسي يتعرض لدرجة تشويه كبرى في العديد من الملفات، إلا أن البحث الجاد والموضوعي في الخطوات الملموسة التي تقوم بها موسكو يُظهر أكثر دور روسيا الإيجابي في إخماد بؤر التوتر في العالم، مما يجعلها تكتسب سمعة طيبة كوسيط موثوق لحل الأزمات، فروسيا تفهم معالم العالم الجديد القائم على توازن القوى بعكس عالم الهيمنة أحادي القطب السابق، وترى أن إشراك الدول في حل مشاكلها عبر الحوار الجاد والفاعل هو الضامن الوحيد لحل هذه المشاكل، ولا ترى النهج الغربي الذي كان يقوم على فرض الإملاءات نهجاً نافعاً، وهذا ما بات الواقع يبرهن عليه، فالأزمات التي رافقت العالم لعقود وبدت كما لو أنها غير قابلة للحل، باتت اليوم تظهر بوادر جديدة لحلها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 984