عن محاولات تسميم روسيا

عن محاولات تسميم روسيا

عشرات الطلعات الجوية العسكرية الروسية لاعتراض مقاتلات غربية على حدودها، وحملة ضغط دولي كبرى بذريعة تسميم المعارض الروسي نافالني، ونشاط إعلامي غربي تعبوي كبير ضد موسكو... ما القصة خلف كل هذه الجبهات المفتوحة على روسيا الآن؟

لا بد من رؤية التطورات الجارية وفقاً لإحداثيات اليوم، فالأوروبيون على خلاف مع الأمريكيين الذين يحاولون شرخ العلاقة بين بكين وموسكو، وألمانيا ضمن الاتحاد الأوروبي تسعى لاتخاذ مكانٍ مستقلٍ نسبياً أو تزعّم الاتحاد إن أمكن... بالإضافة إلى الجبهات العديدة المفتوحة، منها الملفات الدولية كسورية وليبيا وأوكرانيا وبيلاروسيا إلخ.. والتطورات الدولية المتجهة نحو مزيدٍ من التأزم الغربي، مع تهاوي الدولار وما سيخلّفه من تأثيرات دولية عموماً، وسباق التسلح، وفي هذه اللحظة تجري الاستعدادات للانتخابات الأمريكية التي يجري ضمنها اقتتال بين معسكري الانقسام الأمريكي.

التحركات العسكرية

في يوم الخميس، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عبر صحيفة «النجم الأحمر» التابعة لها، عن قيام 43 طائرة أجنبية بنشاط استطلاعي قرب الحدود الروسية خلال الأسبوع الأخير فقط، وأكدت أنه خلال هذا الأسبوع لوحده أقلعت الطائرات الروسية 5 مرات معترضة عدداً من الطائرات القريبة، من أجل منع الانتهاك للحدود الروسية، علماً بأن وزارة الدفاع الروسية أعلنت عدداً من المرات طيلة الشهر المنصرم عن طلعات عسكرية جوية لاعتراض طائرات أجنبية وقاذفات لدول الناتو، فوق كل من البحر الأسود، والبلطيق، وبارنتس.
تأتي هذه التحركات العسكرية على الحدود الروسية مع انتشار منظومات صاروخية غربية وأمريكية في عددٍ من دول أوروبا الشرقية، من بينها بولندا مثالاً، لتكون هذه الأنشطة بمجموعها وما تحمله من استفزازات، محاولات لتقويض الدور الروسي المتنامي واختبار قدرة روسيا على ضبط النفس، وبالإضافة لذلك يبدو أن الطلعات الجوية باقترابها المتهور عمداً من الحدود الروسية تستدرج ردود فعلٍ من موسكو نحو «خطأ» ما بالحد الأعلى- عبر إسقاط إحدى هذه الطائرات مثالاً- لتبني عليه واشنطن تصعيدياً سياسيّاً وعسكرياً بغية صنع أزمةٍ بين روسيا وأوروبا للحد من تطور العلاقات بينهما... فهكذا هدف يتفق مع المحاولات الأمريكية عموماً، وينسجم الآن مع تورط ألمانيا بتسلّمها قضية «نافالني» على المستوى السياسي وتصعيدها فيها.

التحركات السياسية– نافالني

في 20 آب تعرض المعارض الروسي نافالني لوعكة صحية على متن طائرة نقل متجهة إلى موسكو، دخل على إثرها حالة غيبوبة، وفي اليوم نفسه ابتدأت حملة تصعيد سياسية غربية وأمريكية خصوصاً، مشككة بضلوع الحكومة الروسية بالأمر، ولتطلب عائلة نافالني بنقله من روسيا إلى ألمانيا لتلقي العلاج هناك، الأمر الذي سهلته الحكومة الروسية، بعد وصوله ألمانيا صرحت الأخيرة عن «تسميم» نافالني، الأمر الذي نفته الحكومة الروسية تماماً، وطالبت ألمانيا بإرسال بيانات ودلائل، ولتسهيل التعاون بين البلدين في المسألة، لترفض ألمانيا هذه الطلبات وتستمر بتصعيدها السياسي مهددةً، مع الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات على روسيا.
من اللافت هنا كان تغيّر السلوك الأمريكي اتجاه المسألة بعد تسلّم ألمانيا له، لتصبح التصريحات الصادرة عن واشنطن «محايدة» حيث قال ترامب في يوم الجمعة: إن «الولايات المتحدة لا تملك أدلة» على تسميم نافالني، ولتُترك ألمانيا وحدها بهذا الصراع مع روسيا. فالتثمير الأمريكي الآن يتمثل بمحاولة صنع أزمة روسية- ألمانية تفضي إلى إعاقة تقدم العلاقات بين البلدين، وربما تؤخر إطلاق عمل خط الغاز المسال «السيل الشمالي-2» وإدامة توريد الغاز الأمريكي إلى أوروبا قدر المستطاع.

المصلحة الأمريكية

تتقاطع المسألتان العسكرية باستفزازاتها الحدودية، والسياسية «نافالني»، بأنهما محاولات مباشرة لتؤثر على العلاقات الروسية- الأوروبية لصالح واشنطن، فكل عرقلة لهذه العلاقات تؤدي إلى استثمار الوقت القصير المتبقي للقوات الأمريكية في أوروبا، ومن جهة أخرى فإن تثمير هذه التفاصيل في الإعلام الأمريكي يتمثل بشيطنة روسيا وترسيخ حالة العداء لها داخل البلاد وخارجها... وبالإضافة لهذا الأمر، تسعى واشنطن في الداخل إلى فصل روسيا والصين عن بعضهما، كأحد جوانب محاولاتها بادّعاء وجود شق وخلاف بين الدولتين الصاعدتين وتكثيف الحديث عن هذا الأمر إعلامياً، ليصرح ترامب مثالاً: «من اللافت أن الجميع يتحدثون دائماً عن روسيا، لكنني أعتقد أن الصين هي حالياً ربما الدولة التي يجب عليكم التحدث عنها بشكل أكبر بكثير من روسيا... ما تفعله الصين أسوأ بكثير».
إن هذا التصريح من ترامب تحديداً بربطه مع ادعاءات تدخل روسيا بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 لصالح ترامب نفسه، والنشاط الإعلامي الأمريكي الذي يدّعي أن الصين تحاول التدخل الآن بالانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح جو بايدن، غايته اختلاق خلافٍ وهميّ بين موسكو وبكين ضمن الرأي العام الأمريكي والعالمي بأن موسكو تفضل ترامب، بينما بكين تفضل بايدن، فضلاً عن أن هذه الادّعاءات باتت تشكل سلاحاً بأيدي طرفي الانقسام الأمريكي لضرب بعضهم البعض، سياسياً وإعلامياً من خلاله، في حال نجاح أيّ من الرئيسين، إلا أنهما وفي الوقت نفسه يتقاطعان بمسألة ترسيخ العداء لهما على حدٍّ سواء.

النشاط الأوروبي

على الضفة الأوروبية، فمن المفيد أولاً: التذكير بأن وجود خلافات أوروبية- أمريكية لا يعني بأن الأولى باتت منسجمة أو متفقة مع روح الميزان الدولي الجديد، بسياساته من تكافؤ وتكامل، بل ووفقاً لجميع مؤشرات النشاط الأوروبي يتبين العكس، حيث باتت دول الاتحاد تتخذ دور واشنطن المتراجع، بنفس العقلية، لكن مع فارق حجم وقدرة التأثير، وهنا بيلاروسيا مثالاً، حيث اتخذ الاتحاد وألمانيا تحديداً دوراً سلبياً واضحاً بالتدخل والتحريض والإملاء وصولاً إلى التهديد بالعقوبات، إلا أن النشاط الروسي في الملف البيلاروسي قام بتأريضٍ كبير لكل هذه الحملة على مينسك، مما جعل أوروبا وألمانيا تردّ على فشلها هناك بالتصعيد في قضية «نافالني» نفسه، قبل أن تصبح وحيدةً في الجبهة معها، بعد تخلي واشنطن عنها، لتقع في فخٍ لن يكون مخرجه إلا بتسوية العلاقات مع موسكو، الأمر الذي أعطى مؤشراً في هذا الاتجاه بعد تصريح وزارة العدل الألمانية مؤخراً بقبولها طلب روسيا بالتعاون القانوني في التحقيق حول ادّعاء تسميم نافالني.

النتيجة لن تختلف عن سابقاتها

بالمحصلة، فإن مختصر التصعيد الأوروبي والأمريكي على روسيا، بتناقضاته وتبايناته فيما بينهم، يصب في محاولات تقويض موسكو والضغط عليها، لتحصيل تنازلات في الملفات والمسائل الدولية كلٌ وفق مصلحته، إلّا أن أوروبا وواشنطن ليستا بموقع قوّة في أيّ تفاوض في أزماتهما اليوم، على العكس، واستناداً للمحاولات الشبيهة السابقة كلها بنتائجها، لن يفضي الأمر إلّا ضمن اتجاه واحدٍ، هو: المزيد من الخسائر الغربية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 12:55