لبنان: للغرب مشروعٌ واحد يطارده كابوس مزمن!

لبنان: للغرب مشروعٌ واحد يطارده كابوس مزمن!

يبدو طقس لبنان مواتياً للرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون الذي أنهى زيارته الثانية منذ أيام بعد مرور شهر فقط على قدومه الأخير عقب تفجير المرفأ، وسرعان ما جرى الإعلان عن زيارة مرتقبة في شهر تشرين الثاني المقبل! فلماذا هذا الاهتمام المفاجئ؟ وماذا يحمل التناغم والتنسيق الفرنسي الأمريكي للبنان هذه المرة؟

بعد الانفجار الكارثي في المرفأ شهدت الأراضي اللبنانية «كثافة دبلوماسية» ملحوظة، وإن كان معروفاً أن هذا النمط من الزيارات لا يرتبط بالضرورة بحجم المصيبة، بل يرتبط بإمكانية استثمارها، يبقى السؤال إذاً، وإذا ما نظرنا إلى الجهود الفرنسية والأمريكية ككتلة واحدة : ما هو الهدف الغربي من هذا الاستثمار؟ وعلى ماذا يراهن؟

في فهم السلوك الغربي

حاولت فرنسا أن تظهر وكأنها تعمل بشكلٍ منفرد في الملف اللبناني، وكان الموقف الأمريكي لم يتضح بعد من سلوك فرنسا هذا، وتحديداً أن لقاءات جمعت بين ماكرون ورئيس كتلة حزب الله في البرلمان اللبناني، فيما بدى موقفاً مختلفاً عن موقف الولايات المتحدة من الحزب الذي يخضع لعقوبات أمريكية، ليتسم موقف باريس «بمرونة أكبر» و«قبولٍ للتوازنات الداخلية اللبنانية».
لا داعي لإضاعة الوقت بإثبات ترابط المشروع الأمريكي- الفرنسي، ولا ضرورة للبحث إذا ما كانت فرنسا تدرك هذا الترابط وتقبل دورها في هذه المسرحية، بل يمكننا ببساطة الاعتماد على الإعلان الصريح لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي أكد على أن بلاده تعمل مع الفرنسيين ولديها الأهداف نفسها، بل وتزامنت زيارة الرئيس الفرنسي مع نائب وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر، الذي تقاسم مع الرئيس الفرنسي المهام التي يجب أن تنجز ليعملا معاً كوفدٍ رفيع المستوى للخارجية الأمريكية.
ولا يمكن بالطبع تجاوز الشكل الذي تجري فيه هذه الزيارات كونه جزءاً من مضمونها، فالشكل المذل مطلوب، بل هو بمثابة إعلانٍ سياسي، فالأعراف الدبلوماسية ارتبطت بمسرحية أخرى انتهت وولى زمانها، فيستطيع الرئيس الفرنسي اليوم التجول واللقاء مع من يشاء، بل وجمع الأركان السياسية للنظام، وتوزيع الأوراق وتحديد الآجال الزمنية، وأن يجري لقاءات مع منظمات المجتمع المدني أيضاً، بل ويوكل الرئيس الفرنسي للمدير العام لجهاز المخابرات الخارجية متابعة «تنفيذ الوعود» في فترة غيابه التي لن تطول. ولا يمارس المبعوث الآخر سلوكاً مختلفاً، بل لم يضع شينكر ضمن جدول أعماله لقاءات مع الكتل السياسية واكتفى باجتماعات أخرى مع المجتمع المدني، ولقاء جمعه مع قائد الجيش اللبناني دون أن يتم هذا اللقاء ضمن إطار وزارة الدفاع اللبنانية مثلاً!. وتطول قائمة الأفعال الوقحة الجارية والتي تعلن موقفاً غربياً من النظام اللبناني، ويجري معاملته– كما غيره من الأنظمة في الواقع – كموظفين لرعاية مصالح الغرب في هذا البلد.

مشروعٌ واحدٌ إذاً.. ماهو؟

إذا قلنا، أن المشروع هو مشروعٌ واحدٌ يتوجب علينا البحث على أمل الوصول لتحديد ملامحه، فالقول بأن الدول الغربية تسعى للحفاظ على مصالحها في لبنان جوابٌ قاصر بل يحمل في باطنه بعض التضليل، كما لو أنه لا يتعدى صون مرابح بعض الشركات الغربية التي ترغب بالاستثمار في قطاعات محددة بهدف جني الأرباح على حساب اللبنانيين، وهو ما يجري ويتوسع منذ عقود، ويقول البعض: إن الهدف النهائي من كل ما يجري هو تجريد سلاح حزب الله اللبناني كمطلب أساسي للغرب، لكن المؤشرات على أرض الواقع تفرض رؤية أكثر شمولاً وأوسع من حدود لبنان. فما يجري بدايةً يرقى لإعلان عن نيّة تفجير البلد، الذي ورغم حجمه الصغير نسبياً، إلا أن حربه الأهلية الأخيرة دفعت كل دول الإقليم للدخول كأطراف فيها، ولم تقتصر «قائمة المدعوين» إلى هذا النزاع على دول الإقليم فحسب، بل توسعت لتشمل قوى دولية، وجرى إشعال البلاد وحرقها واستنزاف قواها البشرية في معارك غير منتهية، لكن هذا المخطط بات قديماً بعض الشيء، ولا يرقى لحجم أزمة الرأسمالية! فالحريق اليوم يجب أن يكون ضخماً تُرمى فيه دول المنطقة حطباً، والحديث لا يجري عن سورية والعراق ولبنان فقط، بل لا يستثني أحداً فمصر والجزائر وإيران وتركيا وغيرهم في قائمة طويلة من الدول التي كانت تتخاصم فيما بينها، إلى أن بات واضحاً أنهم يلقون مصيراً واحداً، وعلى الرغم من ذلك لم يكن دفاعهم عن وجودهم بالمستوى المطلوب، حتى مع تعاظم التهديدات القائمة.
فالمشروع المعد للبنان هو نفسه المشروع الغربي الذي يقوم على اشعال الأرض قبل الانسحاب منها لتأخير حركة الخصوم، الذين لن يستطيعوا ترجمة وزنهم الحقيقي بشكل نهائي قبل نجاحم بإطفاء كل هذه الحرائق، التي تمتد من شرق آسيا إلى غربها ومن شمال إفريقيا إلى جنوبها!

الخصوصية اللبنانية

هذا لا يعني ألّا خصوصية لبنانية لمشروع الحريق الكبير هذا، فهناك وصفة جاهزة، بل ويجري صياغتها بأدق تفاصيلها، وتوزيع أجزاء منها بأوراق مطبوعة على الأطراف المعنية بتنفيذها! وإن كان يرغب البعض بتشبيه الولايات المتحدة وفرنسا في لبنان بثنائية «الشرطي الجيد والشرطي السيء» تبدو خطوط الفصل باهتةً بين الاثنين، فالمطروح اليوم هو أن يقبل لبنان بإجراءات غربية تفاقم المشكلة بدل أن تحلها، لتكون الجائزة إنجاز هذه المهمة بضعة مليارات تبث الحياة في الجسد الميت لساعات إضافية! فـ «مشروع برنامج للحكومة الجديدة» الذي وزعته السفارة الفرنسية في لبنان على الأطراف المعنية، يقوم بشكل واضح على المحافظة على الدور المعطل للدولة، بل ويفتح باباً لمسك دفاتر المصرف اللبناني من قبل الغرب بشكلٍ مباشر، وتسمح أيضاً باستخدام انفجار المرفأ عند الضرورة لتهديد من يرفض أو يخالف المخطط المرسوم. فما الذي سيصل إليه لبنان بعد التزامه بالوصفة الغربية؟ سيحصل على قروض جديدة لن تحل المشكلة. وتكمل العقوبات الأمريكية شد الحبل على عنق لبنان فهذه الإستراتيجية باتت «مجربة» وتعطي نتائج واعدة، إذا ما طبقت على أنظمة مرتبطة بالغرب بشكل عضوي، ولا يمكن «فطامها» عن الدولار دون إجراء تغيير جذري في بنية نظامها، ولا يكتفي المشروع بالعقوبات الأمريكية، بل يهدد ماكرون أن عقوبات أوروبية يمكن أن تفرض إذا لم تتحقق الخطة المطلوبة في الزمن المطلوب.

مصادر القلق الغربي

يبدو مما سبق، أنه ليس هناك ما يعكّر صفو «مهندسي الفوضى» لكن الواقع يقول غير ذلك، فهناك مصدران أساسان لقلق الغرب، فإذا نظرنا إلى مشروع الفوضى العالمي نرى أنه اصطدم بعقبات كبيرة، فسورية وأوكرانيا كانتا آخر ضحاياه، وحتى أن المشروع لم يحقق مبتغاه تماماً، فهو وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون مثلاً، لا يعد إلّا جزءاً من بسيطاً من مشروع الفوضى الشامل المطلوب، وفشلت كل المحاولات لإشعال بؤرٍ جديدة حتى اللحظة، على الرغم من الاستثمار الكبير في إشعالها من قبل الغرب المتراجع، والحديث يدور هنا عن رقعة واسعة جداً، فأين الحرب الكورية الجديدة؟ وما أخبار المعارك الطاحنة التي انتظرها البعض بين الهند والصين؟ أو بين الهند وباكستان؟ وماذا جرى بمشاريع تقسيم العراق؟ وإشعال روسيا والصين وتركيا وإيران؟ وكم بقي من القوات الأمريكية المنتشرة خارج حدودها؟ وهل ستبقى القواعد الأمريكية الفارغة أعشاشاً للطيور، أم سيكون لها نفعٌ في المستقبل؟ فهي منشآت يمكن الاستفادة منها قبل كل شيء!.
ما مصير هذه الملفات كلها؟، التي وإن كانت ما تزال تشكل تهديداً خطيراً، إلّا أنها لم تحدث على الرغم من أن الدبلوماسيين الغربيين باتوا ينامون في الشرق الأوسط أكثر من بيوتهم، فماكرون يزور لبنان ثلاث مرات خلال فترة قصيرة، ويذهب من لبنان إلى العراق ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة للـ«جنود الآخرين» فرجال الاستخبارات والمبعوثين الخاصين، والمقاتلين وغيرهم يعملون على مدار الساعة، لكنهم لم ينجحوا حتى اللحظة، والوقت لم يعد في صالحهم كثيراً، فمشروع الفوضى لا يصلح لأي زمان، بل هو مشروع كغيره من المشاريع له تاريخ انتهاء صلاحية، ونحن نعيش آخر أيامه، هذا لا يعني بالطبع أن لبنان سيبقى بعيداً عن الفوضى، بل المقصود: أن إشعال لبنان مهمة صعبة لن تتم بسهولة، وإن تمت ستجري محاولات تطويق سريعة وجدية.
حملت السطور السابقة، أن هناك مصدرين للقلق الغربي، الأول: هو ما ذكر عن مقاومة الأقطاب الصاعدة لمشروع الفوضى المعدّ. أما الثاني: هو الحركة الشعبية واللبنانية كجزءً من حركة شاملة عالمية، فانتفاضة تشرين ليست تعبيراً عن مشروع الفوضى، بل هي بذورٌ لمشروع مضاد تماماً، يشكّل إذا ما تلاقى مع التوازن الدولي الجديد حائط صدٍ لا يمكن تجاوزه! بالطبع لم تصبح الحركة الشعبية اللبنانية قادرة على أداء هذه المهمة بعد، وتعاني من أمراضٍ ومخاطر محدقة، منها مثلاً: اعتماد الغرب على قوى أساسية في النظام السابق ومحاولة زجها في وجه الحركة، أو ضمن صفوفها، إلى جانب «شيك على بياض» لمنظمات المجتمع المدني التي يجري إعدادها ودفعها للعب دور طرف مقابل وهمي للنظام القائم، ويجري هذا بالتزامن مع المشاكل الذاتية التي تعاني منها حركة شعبية لم تستطع إلى الآن صياغة برنامج يحمله ممثلون عنها، في مواجهة كل «الأوراق القديمة» الممجوجة، التي يجري تداولها سواء أكانت أمريكية أو فرنسية أو محلية «معطّرة» برائحة الغرب.
الظرف العام يسمح للبنان بتجنب الفوضى، ويسمح لقواه الوطنية الخروج من مأزقها، عبر الانتقال لموقعٍ مبادر يحجز لها موقعاً متقدماً عن القوى الأخرى القاصرة، مما يسمح أخيراً بتوجيه ضربة جديدة لمشروع الفوضى، تضاف إلى قائمة خسائره الممتدة على رقعة الكوكب الواسعة، وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الشعب اللبناني نعلم بأنه قادرٌ على توجيه هذه الضربة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 17:25