درجة جديدة من حدّة التناقضات الأوروبية الأمريكية
يزن بوظو يزن بوظو

درجة جديدة من حدّة التناقضات الأوروبية الأمريكية

مع استمرار الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من المعاهدات والالتزامات الدولية واحدةً تلو الأخرى، مؤكدة بذلك أنها تلتزم بالقانون والاتفاقات الدولية بشرط ألا تتناقض مع توجهاتها الدولية، وأنها مستعدة لفرض مصالحها بالقوة على الجميع، بمن فيهم حلفائها التاريخيين، لذلك تجد أوروبا نفسها مجبرةً على تغيير نهجها واستراتيجيتها دفاعاً عن مصالحها وفق المعطيات الجديدة.

لقد قالت المستشارة الأمريكية أنجيلا ميركل: «نشأنا مع معرفة معينة أن الولايات المتحدة تريد أن تكون قوة عالمية... لو تريد الولايات المتحدة الآن وقف أداء هذا الدور بإرادتها الخاصة بها، فيجب علينا التفكير في هذا الموضوع بشكل عميق»

الابتزاز عبر «الناتو».. والبديل عنه؟

إذا ما كانت علاقة الأمريكيين والأوروبيين في «الناتو» قد بُنيت على مصلحة عسكرية مشتركة تفرضها المصلحة السياسية، وموازين القوى في النصف الثاني من القرن الماضي، فإن الحلف حالياً يكلّف واشنطن أكثر من الفائدة المرجوّة منه، لذلك باتت الأخيرة تستخدمه لابتزاز الأوروبيين وكوسيلة لـ «جباية» الدولارات من أعضاء الحلف، ويذكّر الرئيس الأمريكي بشكلٍ دوري: أنه لن يكون متمسكاً بالدفاع عن مصالح أوروبا إن لم تستطع الدول الأوروبية تحمل تكاليف تسليح التحالف، ويدفع الموقف الأمريكي هذا الأوروبيين للتفكير بمنظومة أمنية أخرى، وإن كان شكل وطبيعة هذه المنظومة لا يزال قيد البحث، إلا إن ألمانيا وفرنسا تحدثتا حولها في عدة مناسبات.
أما مؤخراً، ففي تعليقٍ على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تقليص عدد القوات العسكرية في ألمانيا عبر سحب نحو 9,500 جندي أمريكي، اعتبرت ميركل بأن التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا هو استجابة لمصالح واشنطن نفسها، قائلة: «القوات الأمريكية في الأراضي الألمانية لا تسهم في حماية ألمانيا والجزء الأوروبي للناتو فحسب، وإنما كذلك مصالح الولايات المتحدة بعينها»
وفي لقاء افتراضي جمع بين الرئيسين الروسي والفرنسي، قال فلاديمير بوتين: إنه ينبغي «توحيد الجهود في سبيل مواجهة التحديات والتهديدات المشتركة ... ويجب علينا توحيد المساعي إذا رغبنا في تحقيق نتائج إيجابية»، وردّ الرئيس الفرنسي عن قناعته بأن الأزمة التي يمر بها العالم حالياً والأزمات الإقليمية المختلقة تظهر أهمية إنشاء مجال أوروبي يمتد من لشبونة في أقصى الغرب الأوروبي إلى فلاديفوستوك الواقعة في أقصى الشرق الروسي، وهو كتعبير رغم المبالغة فيه، إنما يشير إلى جدية التقارب الجاري بين أوروبا وروسيا، وأكد ماكرون فيما بعد أنه سيسافر إلى موسكو لبحث عدد من الملفات منها: «الأمن الأوروبي» و«الصراعات الإقليمية».

إعاقة نمو الاقتصاد الأوروبي

من المستجدات الأخيرة، أن الولايات المتحدة تدرس فرض رسوم جمركية على صادرات بقيمة 3,1 مليار دولار من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، بسبب خلاف جارٍ حول مصنّعي الطائرات، بين «إيرباص» الأوروبية و«بوينغ» الأمريكية، ويعود هذا الخلاف إلى العام الماضي بعد أن قامت واشنطن في حينه بفرض رسوم على جملة من السلع الصادرة عن الاتحاد الأوروبي بقيمة 7,5 مليار دولار، شملت فيها الطائرات، بذريعة الردّ على دعم غير قانوني بمليارات الدولارات قُدّم لصالح «إيرباص».
وبالمقابل، أعلنت منظمة التجارة العالمية بأنها تدرس منح الاتحاد الأوروبي حقوقاً مماثلة لفرض رسوم على السلع الأمريكية إثر الدعم الذي حصلت عليه «بوينغ» معتبرةً إياه غير مشروع.
لكن هذه المعركة لا تعود إلى إيرباص أو بوينغ بعينهما، وإنما إلى مجمل الاختلاف بالمصالح والاستراتيجيات الأوروبية والأمريكية، حيث فرض الرسوم على السلع الأوروبية لا يعتبر «عقوبةً» مؤقتة بقدر ما هو الخطوات الأولية الجديدة نحو إعاقة نمو الاقتصاد الأوروبي بالحد الأدنى، وخنقه بالحد الأعلى.

تناقض تزداد حدته

إن هذا التناقض بين أوروبا والولايات المتحدة قد تجاوز وصف «الخلافات» وبات يقترب من التنافس والصراع المباشر، وفقاً للمصالح المستقلة لكلا الطرفين في العالم الجديد. وفي حين يمضي الأوروبيون بشكل موضوعي إثر تطورات الوضع الدولي إلى التقارب مع روسيا لا كـ«حليف» على الهيئة الأوروبية- الأمريكية، وإنما كـ«صديق» باستطاعته أن يوفر دعماً اقتصادياً وسياسياً دون «هيمنة» في مواجهة الابتزاز والتخريب الأمريكي، يسعى الأخير إلى إعاقة وكبح هذا التقارب ما أمكن وكيفما تمكّن لمنع التطور الأوروبي من جهة، ومنع المدّ الجيوسياسي الروسي في أوروبا من جهة أخرى.
صرحت ميركل حول ضرورة أن يواصل الاتحاد الأوروبي الحوار مع روسيا، معتبرةً أن «هناك أسباباً جيدة لمواصلة الحوار البنّاء مع روسيا»
وضمن العلاقة الألمانية الروسية أيضاً، فقد شارف مشروع بناء خطوط نقل الغاز الطبيعي المسال «السيل الشمالي 2» بين الدولتين على الانتهاء، رغم كل جهد العقوبات والإعاقات الأمريكية لهذا المشروع، ليجدد الأمريكيون تهديدهم، حيث عرضت مجموعة سيناتورات في مطلع هذا الشهر مبادرة لتوسيع العقوبات ضد المشروع بين روسيا وألمانيا، وتستهدف هذه العقوبات الجديدة شركات التأمين التي تعمل مع السفن الروسية على تنفيذ خطّ الغاز، معتبرين على لسان السيناتور الجمهوري تيد كروز بأن المشروع يشكل «تهديداً حيوياً بالنسبة إلى الأمن القومي الأمريكي». فهو فضلاً عن كونه منافساً قوياً لإيراد الغاز الأمريكي إلى أوروبا، يمتّن العلاقة الروسية الأوروبية ويفتح آفاقاً أخرى لها بمجرد بدء العمل به، كارتباط اقتصادي مباشر ستنتج عنه بطبيعة الحال ارتباطات سياسية أعمق بغير المصلحة الأمريكية.
وقالت وكالة «بلومبرغ» بأن الحكومة الألمانية تدرس حزمة إجراءات جوابية في حال فرضت واشنطن هذه العقوبات الجديدة، وأن المستشارة الألمانية تنظر في تمرير الإجراءات عبر التنسيق مع الاتحاد الأوروبي.
باتت ملامح الصراع الأوروبي الأمريكي أكثر وضوحاً، فتناقض المصالح بات يشكل محركاً للصراع، ففي مقالٍ نشر في موقع «اكسبرت أونلاين» يقول كاتبه سيرغي مانوكوف:
«لا تريد واشنطن من بقية العالم فرض ضرائب على أرباح احتكار عمالقة تكنولوجيا المعلومات الأمريكيين، ويريد الألمان، في نهاية المطاف، استكمال بناء خط أنابيب الغاز السيل الشمالي 2، وتحمي بروكسل صناعة السيارات الأوروبية من المنافسين، ولكنها سرعان ما تفقد أعصابها عندما يهدد الرئيس ترامب بفعل الشيء نفسه للسيارات الأوروبية ... وهذا ليس كل شيء، بل هي التناقضات الأكثر شهرة بين الولايات المتحدة وأوروبا، ما يشي بالسير السريع نحو صراع تجاري بينهما.»
لا شكّ أن واشنطن تدرك أن الحرب التجارية مع أوروبا لن ينتج عنها إلا مزيد من التقارب الأوروبي- الروسي، والأوروبي- الصيني، لكن حجم الأزمة الأمريكية لا يترك الكثير من الخيارات لواشنطن، ويبدو أنها تدرك أن هذا التقارب قادمٌ لا محالة، ولكن يمكنها عبر العقوبات وإعلان الحروب التجارية أن تخلط الأوراق، وتعيق هذا التقارب، أملاً منها بمعجزة تغيير مجريات الأمور!

معلومات إضافية

العدد رقم:
972
آخر تعديل على الإثنين, 29 حزيران/يونيو 2020 13:28