أمريكا ... الانقسام الحالي لن يُنجب إلا التصادم
أن تتردد صرخات المحتجين الأمريكان في العالم كله، يعطي لهذه الحركة زخماً حقيقياً وطابعاً خاصاً ولكنه لا يعفيها من إيجاد المخرج الآمن الذي يضمن لها وللبلاد إنجاز ما يجب إنجازه، وهذا بالطبع لا يرفع المسؤولية عن نخب السياسة الأمريكية لكن فشلهم المتكرر بات يطرح شكوكاً حقيقية حولهم جميعاً، وحول قدرتهم على إيجاد المخرج الآمن.
إن كان البعض يرى أنّ المشكلة في الولايات المتحدة تنحصر في كيفية التعامل مع الاحتجاجات فحسب، ويرى في انحسارها مؤشراً على تجاوز مرحلة الخطر، فهو لا يرى إلا إحدى النتائج الأولية للأزمة التي تعيشها البلاد، وإن كان من التسرع القول بأن الاحتجاجات قد بدأت تنحسر، فها هي أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا في الجنوب تشهد احتجاجات على إثر إطلاق رجال شرطة المدينة النار على شاب خلال محاولته الفرار من الاعتقال مساء الجمعة 12 حزيران، لتشتد الاحتجاجات مساء السبت، والتي رافقتها أعمال عنف، حيث أضرم المحتجون النار في أحد المطاعم، القريب من مكان الحادثة. وهذه الحوادث وغيرها الكثير تجري على مدار الساعة، ولا يمكن التنبؤ بمجرى سير هذه الاحتجاجات، لكن ما نعرفه أنها ستبقى مستمرةً بأشكال مختلفة حتى حلّ الأسباب التي دفعت لها منذ البداية.
الصدام الشعبي
يرى العديد من المحللين، أن الاحتجاجات الكبيرة التي خرجت وإن كانت واسعة الانتشار، وضمت أعداداً كبيرة في طول البلاد وعرضها، إلا أنها ليست معبرةً عن الشعب الأمريكي، فالجزء الآخر منهم – والذي لديه أسبابه أيضاً للاحتجاج – قد يختلف مع الحركة الحالية بشكل كبير قد يصل إلى درجة التصادم، فاحتشاد متظاهرين مؤيدون للترامب في مدينة دالاس في وجه معارضين له، وإن كان لا يُعد حدثاً خطيراً، ولكنه يؤشر لهذه الاحتمالية، ففوز الرئيس ترامب في انتخابات 2016 كان بمثابة مفاجأة للكثيرين الذين لم يعلموا بوجود جمهورٍ كبير للرئيس وخطابه المتطرف، وكانت الأمور تبدو محسومة للبعض ليجدوا ترامب في البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة. وإن كانت نسبة التأييد لترامب قد انخفضت كما يدّعي البعض، إلا أن هذا التيار قادر على رفع درجة الصدام حتى وإن لم يعد ممثلاً ضمن السلطة الأمريكية الحالية.
تطلبت السيطرة على الشعب الأمريكي درجة عالية من الهيمنة، وهو ما يعني في ظل انقسام النخبة حالياً أن قطاعات كبرى من الشعب تتلقى ضخاً إعلامياً وسياسياً متناقضاً حسب المصدر الذي تعتمده، وجزءاً كبيراً من المواطنين الأمريكان يعتبرون أن وسائل الإعلام تملك جواباً عمّا يجري في أحيائهم والشوراع القريبة منهم أكثر مما يعرفون أنفسهم أو ما يمكن لهم أن يعرفوه، وهذا ما تدركه هذه النخب وتعوّل عليه. لذلك قد تكون روايات الإعلام حول ما يجري بمثابة تحريض حقيقي لصدام يأخذ طابعاً شعبياً، وفي بلد يُعد حمل الأسلحة حقاً مشروعاً قد يدفع الأمور إلى مناوشات مسلحة بين فرقاء، وقد تكون شرارة حرب أهلية جديدة.
أصبحت الخلافات في إدارة الأزمة الحالية متعددة، وبات واضحاً أن كل خطوة يسعى الرئيس الأمريكي للقيام بها تلقى معارضةً من خصومه داخل النظام الحاكم، وكانت أبرز هذه الخلافات ما جرى مع وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر الذي لم يتجاوب مع رغبة البيت الأبيض، فكانت وسائل إعلامٍ أمريكية قد قالت في وقت سابق: إن البيت الأبيض طلب بشكل رسمي نشر 10 آلاف جندي لضبط الاحتجاجات، وهو ما لم يره وزير الدفاع مناسباً، والذي وافق على نشر 1600 فقط، بالإضافة إلى تصريحات لإسبر أعلن فيها صراحة مخالفته لتوجهات الرئيس الأمريكي، وإن كان هذا الخلاف لم يتسبب في شرخٍ ظاهر على العلن إلى الآن، ولكنه لن يمرّ دون عواقب، فإن شكل توزيع الصلاحيات في الولايات المتحدة بات يجعل محصلة قوى جميع الأطراف صفريةً، أي أن أياً من الأطراف المؤثرة داخل مراكز صنع القرار ليس قادراً اليوم على فرض شكل لإدارة البلاد وأزماتها، وهذا يعني أن الشرط الأساسي لبقاء النظام يهتز، فالانقسام لم يعد مجرد خلافٍ سياسي، بل أصبح معيقاً للحركة، وهذا يجعل القيادة المنقسمة تدور في حلقة مفرغة، أو أن يستطيع أحد الأطراف زيادة وزنه ليدفع بالاتجاه الذي يراه مناسباً، وإن تاريخ النخب الأمريكية الحافل بالخطايا لن يمنعهم من استخدام دماء الشعب الأمريكي لتحقيق ذلك، بعدما لم تعد تكفي دماء الغير!
القول بأن الاحجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية ليس مشكلة البلاد الوحيدة لا يعني التقليل من أهميتها وأسبابها الموضوعية، لكن إذا نظرنا إلى الأشهر القليلة التي مضت، نرى أن العالم يواجه عدداً من الأزمات المتفاقمة، ويظهر من التجربة الأولية أن الدول التي تعاني من أزمات، لم تنجح بتجاوزها كلياً، أي أن الأزمات جميعها ما تزال موجودة بشكل أو بآخر، وجاهزة للانفجار في أيةّ لحظة، وهذا ينطبق على الجميع ودون استثناء، ومن هذه الزاوية نرى أن حصة الولايات المتحدة من هذه الأزمات كبيرة، وهي ذات طابع داخلي وخارجي، فـ «الإمبراطورية العظيمة»، لم تعد قادرة على إنجاز مهام كانت تعتبرها مهام صغيرة كإسقاط أنظمة بعيدة أو استخدام قوتها العسكرية هنا وهناك، هذا يسمح مثلاً لإيران بتحدي الولايات المتحدة الأمريكية لا في الخليج فقط بل وفي المحيط الأطلسي هذه المرة، فترسل 5 شحنات نفط من إيران إلى فينزويلا دون أن تقوم الولايات المتحدة بأي رد، وأعلنت إيران أن قمرها الصناعي الأول «نور» راقب الشحنة وضمن سلامتها حتى وصلت إلى وجهتها، وهذه الحوادث التي التي تجري والتي كان البعض يرى فيها حوادث متفرقة، بل ويرى أنّ قيادة واشنطن «الحكيمة» تسمح لبعض الصغائر بأن تحدث، وفي ذلك حكمة ما، لا يعلمها أصحاب العقول «الصغيرة»، نرى الآن أن هذه الحواث الصغيرة المتفرقة أصبحت القاعدة، وهي النتائج الأولى لانحسار الدور الأمريكي على مستوى العالم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 970