ليبيا... عبث أمريكي ومبادرات إقليمية
يزن بوظو يزن بوظو

ليبيا... عبث أمريكي ومبادرات إقليمية

يبدو المشهد الليبي مغرقاً في تعقيداته، إذا ما نظرنا إلى كم الأطراف الداخلة فيه وتفصيلاتها ومصالحها، ويصبح أكثر تعقيداً كلما تتبعنا النشاط الإعلامي لمختلف هذه الأطراف وتحليلاتها الخاصة كلٍّ من زاويته... فما ملخص الأزمة الليبية، وما المستجدات فيها؟

برزت الأحاديث والتحليلات حول ليبيا منذ أسبوع وإلى الآن، بعدما أعلن الجانب المصري عن مبادرة مكوّنة من عدة بنود لوقف إطلاق النار وبدء تسوية سياسية، لكن ورغم مباركة غالبية الدول الإقليمية والدولية لها، رفضتها حكومة الوفاق الوطني وتركيا، ولا زالت المعارك العسكرية مستمرة حتى هذه اللحظة، وقد كثر الكلام عن الدور الأمريكي الذي عاد لينشط مؤخراً بوصفه «منقذاً» ويحقق الانتصارات، مُتناسين أمراً أساسياً قبل هذا اللغط نفسه، وهو أن واشنطن كانت السبب الأساسي بتعقيد الأزمة الليبية ودفعها إلى طريقٍ مسدود.

إضاءة مختصرة لإنعاش الذاكرة

بعد بدء الاحتجاجات في 2011، وبذريعة القمع والعنف الذي تعرضت له من قِبل النظام الليبي، سُرعان ما جرى تسليح الأطراف المعارضة وتغذيتها من قِبل الأمريكيين والفرنسيين بشكل أساسيّ، ليتحوّل المشهد إلى بؤرة دماء ودمار، وصولاً إلى قيام حلف الناتو بقيادة واشنطن على شن حملة عسكريّة مباشرة أدت إلى إضعاف النظام الليبي، ومقتل رئيسه في ذاك الحين، وقد كان هدف العملية تماماً ما نتج عنه عسكرياً وسياسياً فيما بعد: عدم تحقيق نصرٍ للمعارضة، وعدم القضاء على نظام القذافي، بل تحديداً انهيار «الدولة» الليبية وبالأخص مؤسستها العسكرية، مع الإبقاء على جميع الأطراف المتنازعة، من نظام وميليشيات معارضة، بحالة توازن لاستدامة الصدام، وتوازنٍ تختلف كفّته كلّ حينٍ منذ ذلك الوقت إلى اليوم.
بعد إتمام واشنطن مهمتها، بدأت تنسحب من المشهد الليبي تاركةً إياه للأطراف الإقليمية لتتنازع عليه، مع بقاء عبثها من خلفهم، بالتحديد الأطراف المصرية والفرنسية ودول الخليج العربي، وأيضاً بحالة توازنٍ نسبية تختلّ بين حينٍ وآخر... إلا أنّ السمة العامة بالأمر كانت تعبّر عن «استعصاءٍ داخليّ وإقليميّ».
ثم مع تراجع الولايات المتحدة وهزائمها دولياً، انعكس الأمر على الأزمة الليبية بمستجدات أخرى، ليدخل الطرف التركي الذي بات يحظى باستقلالية أكبر عن الهيمنة الأمريكية، مدفوعاً بمصالحه الخاصة، في محاولة لعب دورٍ أكبر مما تسمح به التقديرات الموضوعية لصالح حكومة الوفاق الوطني، بعد توقيع اتفاقات حدود بحرية وشراكة طويلة الأمد معها، ليغرق أيضاً بالاستعصاء الحاصل، ويصبح طرفاً رئيسياً فيه بمواجهة مصر بشكل أساسي، مما سيكلف أنقرة استحقاقات مستقبلية، واستحالة تجاوز الأزمة الليبية دون خسائر تركية.
بالتوازي مع الدخول التركي، كان قد برز النشاط الروسي والألماني كوسيطٍ بين الأطراف المتنازعة داخلياً وإقليمياً، لتبدأ سلسلة من اللقاءات مع خليفة حفتر وفايز السرّاج والطرفين المصري والتركي في عام 2019 ضمن هدف بناء أساسٍ لعملية سياسية تمكّن من حلّ الأزمة، وصولاً لإقامة اجتماع موسكو أولاً أواخر العام الماضي، والذي كان من المفترض أن يجمع طرفي النزاع الليبي، إلا أن حفتر قد امتنع عنه، ثم مؤتمر برلين في بداية العام، الذي وضع صيغة عامة لشكل الهدنة والحل السياسي دون حضورٍ ليبيّ، وكان السبب الأساسي في هذا التأخير بين الفعاليتين، وعدم حضور الأطراف الليبية هو العبث الأمريكي خلف مصر وحفتر تحديداً، الذي لم يرق له أن يكون هناك حل سياسي أصلاً، ووقع تحت الضغوط لبعض القوى التي لم ترغب أن تكون انطلاقة الحل من «موسكو».

التطورات العسكرية الأخيرة

بعد مؤتمر برلين، مدفوعاً بالزخم السياسي الآتي من واشنطن عبر حلفائه الإقليميين، عزم المشير خليفة حفتر على خوض معركة كبرى وأخيرة ممثلة بالسيطرة على «طرابلس» حيث تتمركز قوى حكومة الوفاق الوطني، لتنتهي عند وصوله على تخوم المدينة بهزائم ميدانية كبيرة جداً من قبل حكومة الوفاق والقوات التركية المساندة لها، ولتنعكس المعادلة فتنسحب قوات حفتر، ويبدأ الطرف الثاني بتحقيق الانتصارات الميدانية والسيطرة على عدد من البلدات والمدن، وصولاً إلى مدينة «سرت» في الإقليم الشرقي التي تجري المعارك حولها الآن.

المبادرة المصرية

مع تتابع الأزمات الأمريكية والدولية الأخيرة منذ مطلع العام، من انهيار أسعار النفط والبورصات والوباء الفيروسي، وتعاظم التوترات الداخلية في مصر سواء الأمنية أم المعيشية منها، بالتوازي مع التعقيدات في ليبيا الحدودية، تغيّرت أولوياتها أكثر نحو «الاستقرار والتهدئة»، لتلتقط الإعلان الذي قدّمه رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، قبل شهرين عن «خارطة الحل» ثم تتبناها بعد تطويرها في المبادرة التي أطلقتها قبل أسبوع، وتُبين المباركات الإقليمية لهذه المبادرة تقاطعها مع موضوعة «الاستقرار»، إلا أن رمزية مكان هذه المبادرة وتوقيتها مع هزائم حفتر، صنعت ردّ فعلٍ سلبيّ من تركيا وحكومة الوفاق الوطني، فضلاً عن غرقهم الآن في وهم إمكانية الانتصار عسكرياً بسبب تقدّمهم الميداني الأخير.

عودة النشاط الأمريكي المباشر

مع إشارات خروج مصر عن سراط «إدامة الأزمة» نحو الاستقرار والتسوية منذ حين، لما له من أثر إيجابي بسبب دورها ووزنها الإقليمي، وبما يخدم مصلحتها الوطنية بالدرجة الأولى، عاد الدور الأمريكي بالبروز، أولاً حينما أعلن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتبرغ، دعمه لحكومة الوفاق الوطني، أما على المستوى السياسي فقد عمد الأمريكي على الاتصال والتواصل مع تركيا ومصر بشأن الأزمة الليبية، في محاولة لمواجهة وإعاقة الدور الروسي، وبإثارة ذرائع وديباجات عديدة مختلفة ومكررة، مثل: مواجهة «الهيمنة الروسية»، أو «سعي روسيا لإقامة قواعد عسكرية في ليبيا».. إلخ، والتي تعني عملياً محاولات تخريب الجهود الدولية بإقامة حلٍّ سياسي.
ولا يزال لهذه النعرات الأمريكية من يسمعها ويردد صداها بلا تفكير، لتملأ وسائل الإعلام وينطلق المحللون الفذّون بالتحذيرات من الخطر الروسي، الذي يكون مضمونه الفعليّ هو: خطر الحل السياسي على الأزمة الليبية!؟... وإذا ما كنا سنضع حسن النوايا اتجاه هؤلاء، فأقل ما يمكن تفسيره من تحليلاتهم هو «الجمود» عن رؤية المتغيرات الدولية، وانطلاقهم بالنظر من عدسات العالم القديم المهترئة، حيث كُل ما تفعله الدول الأخرى يكون على شاكلة نشاط واشنطن من «نفوذ وسيطرة وإقامة قواعد عسكرية كاحتلال» ... أما أن تقول: إنّ المصلحة الدولية الجديدة مغايرة، وتتمثل بالاستقرار والتسويات السياسية وتقرير الشعوب لمصيرها بنفسها؟ تكون مجنوناً.

إخراج «المخرِّب» من جحره فرصة للقضاء عليه

في المحصلة، قد يستمر الأتراك وحكومة الوفاق على عنادهم اتجاه المبادرة الأخيرة بسبب رمزيتها فقط... وتدور أحاديث عن «استبعاد» المشير خليفة حفتر عن المحادثات السياسية والاستعاضة عنه بعقيلة صالح كممثل عن جهة الجيش الوطني الليبي، ولسبب بسيط جداً خلف كل التهويل الذي يجري: هو أن حفتر رجلٌ عسكريّ لا يصلح لخوض مفاوضات سياسية «مرنة» تتطلب التنازلات والتعاون من طرفي الصراع، أيّ أن الاستبعاد هو للمثل عن هذا الطرف سياسياً، وليس استبعاداً للطرف بعينه... إن معالجة هذين التفصيلين قد تكون كفيلة بجذب حكومة الوفاق إلى طاولة المفاوضات مستقبلاً، لكن شرطّ قرب بدئها من عدمها يتعلق بقدرة التخريب الأمريكية، والتي تمثل عودتها إلى السطح والشكل المباشر إمكانية مواجهتها وتأريضها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2020 10:22