عن العنصرية وحرب «الرموز» في بريطانيا

عن العنصرية وحرب «الرموز» في بريطانيا

تعمّ التظاهرات المناهضة للعنصرية وعنف الشرطة في مدن المملكة المتحدة منذ أكثر من أسبوع، كـصدى ودعمٍ للمظاهرات الأمريكية، إثر حادثة مقتل جورج فلويد، وصولاً إلى مواجهات بين البريطانيين، بسبب استهداف الرموز التاريخية، فما حقيقة ما يجري؟

إنّ «معاداة العنصرية» بالنسبة للمتظاهرين ورغم أنها قضية رئيسية إلا أنّها ليست الأساس الذي يدفع كل هذه الحشود إلى التعبير عن غضبها في الشارع، فمن بين الشعارات والهتافات التي يجري إلقاؤها تنديدٌ بمجمل المنظومة الرأسمالية، والحالة المعيشية المتدهورة التي تسير عليها شعوب هذه البلاد، ولبريطانيا حصّتها في هذا الأمر بعد صعود تيار جونسون، وخروجها من الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية، وليس انتهاءً بفشلها في مواجهة الوباء الفيروسي و«نعي» شعبها مقدماً، لتكون كل هذه التراكمات أساساً لما يجري من تظاهرات.

استجرار ردود الفعل

كان الردّ الأول من الحكومة البريطانية على الاحتجاجات هو الاستخفاف بقضيتها، معتبرةً ألّا وجود للعنصرية في بريطانيا، وبتلميحٍ مسبقٍ إلى أنها ستولد حالات شغبٍ وعنف، ثم «حرصها واهتمامها» بمسألة انتشار الوباء الفيروسي في هذه التجمّعات بعد كل استهتارها السابق، وقال جونسون بأن «التظاهرات ستؤدي لعنف مدروس مسبقاً». لتبدأ قوات الشرطة باستفزاز المتظاهرين لصنع ردود فعلٍ تلقفتها جماعات مجهولة الغايات، وعلى رأسها «الأنتيفا» سيئة السُمعة، ليُبنى عليها ردٌ أقسى بالقنابل المسيلة للدموع، وليتحول المشهد إلى مواجهات مباشرة بين المحتجين والشرطة.

معركة الرموز

بدأت مسألة استهداف الرموز التاريخية المرتبطة بالاضطهاد العنصري في احتجاجات الولايات المتحدة، منها مثلاً: إسقاطها لتمثال «كريستوفر كولومبوس» في ولاية مينيسوتا، لينتقل الأمر إلى المملكة المتحدة حيث قام المحتجون بخلع تمثال «إدوارد كولستون» في مدينة بريستول ورميه في النهر، وقد حظي تمثال «ونستون تشرشل» في ساحة البرلمان في العاصمة لندن على نصيبه من هذا الأمر بعد أن قام المحتجون بمحي كلمة «تشرشل» وكتابة «كان عنصرياً» فوقها.
لكن سُرعان ما تحول الأمر إلى قضيّة رموز بعينها في بريطانيا، لينشر «نشطاء» قائمة على وسائل التواصل تتضمن أسماء تماثيل وشوارع ومؤسسات تحمل أسماء أشخاص «عنصريين» لإزالتها أو إعادة تسميتها.
إنّ لمسألة الرموز هذه تأثيرات عدّة، حيث أنها من جهة تضيء على تاريخ بريطانيا الحافل بالاستعمار وارتباطه بحاضرها ودورها اليوم خلف كل أقنعتها الديمقراطية والإنسانية، فكما قال النشطاء الراعين لهذه الحملة بأنه «يجب هدمها حتى تعترف بريطانيا أخيرا بحقيقة ماضيها الاستعماري وكيف يُخلق حاضرنا».
إلا أنّه وبذات الوقت، ومن جهة أخرى لا يمكن تناسي ارتباط هذه الرموز بالهوية البريطانية والمجتمع نفسه، حيث يصنع استهدافها بهذا الشكل المتسرّع وغير المدروس صدمة تستجلب ردود فعلٍ من البريطانيين أنفسهم وتقسّمهم، ولربما تكون هنا الغاية الحقيقية من هذا الأمر وبهذا الشكل، وصولاً إلى النتيجة الجارية أخيراً، بخروج تظاهرات مضادة سميت إعلامياً بمناصري اليمين المتطرف، لحماية هذه الرموز، وحدوث مواجهات عنيفة بين الطرفين.

العنصرية تبرر الاستغلال

العنصرية في جوهرها تبريرٌ للاستغلال، فمن يرضى بأن قومية أخرى أدنى منه مستوىً، لن يعارض نهب ثروات غيره بشكلٍ منظم، وخصوصاً بعد أن بات هذا النهب بأشكال جديدة ومقوننة، مثل: التبادل اللامتكافئ وغيرها، فالقارة الإفريقية التي كانت منجم العالم لقرون، أمنت مواد خامٍ رخيصة وعمالة رخصية وعبيداً أيضاً، كانت دائماً تحظى بدعم فارغ، كأن تتحول مجاعاتها إلى فرصة للمشاهير للالتقاط الصور مع الأطفال الجوعى، وكانت هذه الصور قرابين تدفعها شعوب الدول الاستعمارية لتمحو ذنوبها واستغلالها للغير، لكن تراكم الثروات لدى قلّة، تصغر أكثر فأكثر كل يوم، جعل المحرومين في العالم الغربي يرون محرومي العالم في المرآة هذه المرة، وباتت صلة القرابة أوضح، ولم تعد وسائل الهيمنة القديمة نافعة، فالمنظومة لم تعد تملك حيلاً جديدة، وعلى الرغم من أن حيلها القديمة لا تزال تنفع في بعض الأحيان، إلا أن قدرتها على الخداع تعتمد على ابتكار حيلٍ جديدة وإن فشلت في ذلك فسينفض جمهورها بعد أن يجوعوا ويضجروا. الاحتجاج العالمي اليوم ضد العنصرية هو في جوهره احتجاجٌ ضد الاستغلال وضد سلب الحقوق، وهذا الاحتجاج إن نجح في صون نفسه من شق صفوفه يمكن أن يشكل قوة عالمية ضاربة، سيكون من الصعب احتواؤها من قبل المنظومة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2020 10:23