التيار الذي يحطّم البرازيل
يزن بوظو يزن بوظو

التيار الذي يحطّم البرازيل

تختنق شعوب أمريكا اللاتينية سواء من حكوماتها التابعة لواشنطن تاريخياً، أم من حصار واشنطن على الحكومات اليسارية منها، ودأبها على التدخل فيها وتغييرها لصالحها. وزادت حدة الاختناق هذه مؤخراً مع بروز النموذج القديم بهيئته الجديدة من «يمين متطرف» أو «فاشية معلنة»، وعلى رأسها البرازيل بقيادة بولسونارو، وما تسببه حكومته من معاناة مضاعفة للشعب البرازيلي خصوصاً.

إن البرازيل هي أكبر دولة بالمساحة الجغرافية والتعداد البشري في أمريكا اللاتينية، ولها الوزن الأكبر على القارة في النواحي الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي تعتبر صاحبة التأثير الأكبر على نشاط القارة سياسياً واجتماعياً، خاصةّ بوجود ثماني دول على حدودها البرية، منها فنزويلا وكولومبيا وبوليفيا، ولهذه العوامل فضلاً عن غيرها، كانت على طول الخط الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، لتضمنها كـ «حليفٍ» ضمن المسميات السياسية، و «تابعٍ» بالممارسات العملية.

صناعة ترامب اللاتينية

مع وصول تيار ترامب إلى دفة القيادة الأمريكية، وما طرحه من برنامج التراجع والانكفاء، عُزم استهداف اللاتينية بشكل أسرع وأكبر، بشكل أساس لتأمين مصادر نهبٍ بديلة عمّا ستخسره دولياً، ولكسر وردع إرث النضال ضد الهيمنة الأمريكية في القارة لما يحمله من تهديد عليها... وليس من المستغرب، أن البرازيل كانت من أوائل الدول التي جرى استهدافها والهيمنة على حكومتها السياسية قُبيل الانتخابات الرئاسية في 2018، وأثناء حملات الترشح، جرى توقيف الرئيس اليساري السابق، لولا دا سيلفا، الذي يحظى بشعبية واسعة هددت بعودته إلى الحكم، إثر ادعاءات بتهم فساد قديمة جرى تجديدها، وحكم عليه بالسجن 12 عاماً. وتم انتخاب جاير بولسانرو من «اليمين المتطرف» لرئاسة البلاد واستلم مهامه في بداية عام 2019، وسُمي من الأوساط الأمريكية نفسها الشمالية والجنوبية منها، بـ «ترامب البرازيل»، وبعد سنة من حكمه، بينما أجري العديد من التعديلات والتغييرات في السلطة البرازيلية تضمن هيمنة تيار بولسونارو، وازدياد الضغط الشعبي لصالح دا سيلفا، تم الإفراج عن الأخير.

إرضاء الخارج عوضاً عن صحّة الداخل

منذ استلام تيار بولسونارو حُكم البلاد، عانى الشعب البرازيلي من السياسات الاقتصادية-الاجتماعية المجحفة بحقه، ولتزيد التفاوت الطبقي الحادّ أصلاً، أكثر مما كان عليه، عبر خطط التقشف، ورفع أسعار المحروقات والغذائيات، واستشراء الخصخصة، وانخفاض قيمة الأجور بالنسبة لمستويات المعيشة الجديدة، وحرق الغابات لصالح الاستثمار والخ، لكنها وكحال بقية دول العالم عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، جاءها وباء كوفيد-19 ليزيد من المآسي ويفضح الحكومة البرازيلية، صانعاً بذلك خضّة سياسية في البلاد تُنذر بانفجار اجتماعي.
فعلى شاكلة ترامب، عمد بولسونارو على تجاهل الوباء الفيروسي وتحذيرات منظمة الصحة العالمية حوله، معتبراً إياه «رشحٌ بسيط» بحسب تعبيره، بل وبشكل أكثر فظاظة من ترامب نفسه، فبعد تضاعف الحالات المصابة في البرازيل ووصول حدة الانتشار إلى شفى ذروتها، أعلنت السلطات إعادة فتح الأسواق والمحال التجارية، ودعى بولسونارو شعبه لإنهاء حالة الحجر المنزلي والعودة إلى الحياة الطبيعية.
لتعلن منظمة الصحة العالمية بعد ذلك بعدة أيام، عن انتقال مركز الوباء الفيروسي من الولايات المتحدة إلى البرازيل، وقد بلغ تعداد الإصابات «المعروفة والمسجلة» نصف مليون، علماً بأن إجراءات الفحوص تسير بحدودها الدنيا في البلاد، وبشكل غير كافٍ أبداً، مما يعني أن الإصابات الفعلية أكبر من ذلك بكثير، وبلغت الوفيات 28 ألفاً.
بين بدء مرحلة تضاعف الإصابات -الانتشار- في البرازيل وصولاً إلى إعلان منظمة الصحة بأن هذه البلاد باتت بؤرة الفيروس عالمياً، أقال بولسونارو وزيريّ صحة في بلاده قد اختلفوا معه حول كيفية التعامل مع الجائحة، واستقال الثالث من تلقاء نفسه في منتصف هذا الشهر، وبتاريخ 24، خرج رئيس البلاد ليحيّي أنصاره المحتشدين لدعمه بعد تعالي الأصوات المعارضة والمنددة له، بسبب كيفية تعامل حكومته مع الجائحة، بلا كمامة واقية، وداعياً أنصاره إلى زيادة هذه التظاهرات المناصرة له!
وإذا ما قامت الولايات المتحدة بإنقاذ «وولستريت» بمليارات الدولارات، بفترة ذروة انتشار الجائحة، عوضاً عن إنقاذ شعبها، فقد قامت البرازيل، بتاريخ 7 آذار بفعل مشابه وفقاً لموقع حكومتها كـ تابعٍ، عبر توقيع اتفاقية دفاعٍ مشترك مع واشنطن، والتي تعني عملياً، باباً عريضاً يُمكّن واشنطن من التدخل في البلاد أمنياً وعسكرياً مقابل استمرار دعمها للحكومة، واستمرار الحكومة بالنهب وتقاسمه مع «المعلّم الأمريكي». بالإضافة إلى أنّ هذه الاتفاقية تعني بشكلٍ أو آخر، جعل البرازيل منصة انطلاق رسمية للأنشطة الأمريكية اتجاه باقي دول القارة اللاتينية، وتحديداً منها فنزويلا.

الاضطهاد العرقي

أشارت ليتيشيا باركس، أحد أعضاء حركة العمّال الثوريون في البرازيل، عبر لقاء لها مع شبكة «Left Voice» إلى أنّ حالة الاضطهاد العرقي في البرازيل «عادت ملامحها للظهور بعد الأزمة المالية في عام 2008».
إن هذا التوجه كأداة يمكّن النخبة الحاكمة من السيطرة على المجتمع لزجّه في صراعات وهمية، وصولاً إلى بروز تعبيرات اقتصادية-اجتماعية عن هذه السياسات بشكل أكثر حدة، بالتوازي مع مجيء «اليمين المتطرف»، ليكون أجر العمال والموظفين من البشرة السوداء أو السكان الأصليين أقلّ من الآخرين من نفس المهنة أو العمل، بدرجة قد تصل إلى النصف، وأضافت باركس أيضاً إلى أنّ حوالي 50% من الشعب البرازيلي هم أصحاب بشرة سوداء، بإشارة إلى مدى خطورة هذه السياسات العنصرية على المجتمع، ومدى الاضطهاد الحاصل فيه بناء على هذا التوجه فضلاً عن غيره.
مع انتشار الوباء الفيروسي في البلاد، ظهرت إحصاءات تفيد بأن غالبية المتوفين، بنسبة 70% هم إما من ذوي البشرة السوداء أو من السكان الأصليين «الهنود»، وتعكس هذه الإحصائية نفسها موضوعة فرق الأجور السابقة، فمن لا يملك مالاً، لا يتمكن من الحصول على رعاية صحية كافية.
وقد صرّح محافظ مدينة ماناوس الواقعة شمال البلاد في ولاية أمازوناس، مندداً بالسياسات العنصرية قائلاً: «أخشى من وقوع مجزرة، وأريد أن أعلن للعالم كله أننا نمتلك هنا حكومة لا تأبه بحياة السكان الأصليين... إن ما يجري في ولايتي، وفي مقاطعتي، جريمة بحق الإنسانية»

لكل فعل ردّ فعل

مع تزايد حالة الضغط والاضطهاد وتدني المستوى المعيشي والتدهور الصحي، تتزايد وتتعالى الأصوات المنددة والمناهضة للحكومة البرازيلية وسياستها من مختلف الأطراف وحتى الإعلامية منها، ففي 26 من هذا الشهر أعلنت شبكتا «غلوبو» و «تي في بانديرانتيس» الإعلاميتين البرازيليتين، بالإضافة إلى صحيفتي «فوليا دي ساو باولو» و «استادو دي ساو باولو» على مقاطعة الفعاليات في مقر الرئاسة البرازيلية بسبب اعتداء مناصري بولسونارو على طواقم عملهم.
إلا أن الطرف الأكثر جذريةً وتأثيراً هو الشعب البرازيلي نفسه الذي تنذر جميع الظروف الجارية عليه وحوله، عن قرب انفجاره...

معلومات إضافية

العدد رقم:
968
آخر تعديل على الإثنين, 01 حزيران/يونيو 2020 14:46