أزمة العصر وهزيمة نموذج «إنسان الرأسمالية» الغربي
تستعد الشركات المفلسة فعلياً ومنذ زمن للاستفادة من جائحة كورونا لإعلان إفلاسها؛ فهذه الشركات الكبرى التي ادعت أنها تنمو وتحقق المليارات، ترسل اليوم آلاف العمال إلى البطالة. نادي ليفربول الإنكليزي العريق الذي كان يشتري اللاعبين بمئات الملايين لا يستطيع دفع أجور موظفيه، بل يفرض عليهم بدلاً عن ذلك أن يتجهوا للاعتماد على معونات البطالة.
الأمثلة كثيرة؛ سلسلة «دبنهامز» البريطانية لم تحتمل نفقات إغلاق شهر واحد وستعلن إفلاسها ليلقى 22 ألف عامل يعملون لديها المصير ذاته، وشركة الطيران البريطانية «فلايبي» أفلست هي الأخرى. سيكون هذا حال آلاف الشركات، وذلك على الرغم من حزم الإنقاذ المفتوحة الرصيد المقدمة من أموال الشعوب الأوروبية للشركات والبنوك (العملاقة) والتي تحتاج كل عشر سنين لحزم إنقاذ بترليونات اليوروات والدولارات.
يبقى السؤال قائماً: ما هو تأثير الأزمة الاقتصادية الوجودية الراهنة على العامل الغربي وبنيته الفكرية؟ وبعبارة أخرى: ما هو تأثير الأزمة على نموذج «الإنسان» في العالم الرأسمالي عموماً وفي الصيغة الغربية خصوصاً؟
البناء الغربي لـ «إنسان الرأسمالية» وتضرره اللاحق
خلال الأربعين سنة الماضية، عمّق رأس المال من بنائه للإنسان الغربي وتحضيره ذهنياً باتجاه قبول نمطٍ اقتصاديٍ-اجتماعيٍ قائمٍ على الحرية المطلقة لرأس المال في الولوج التدريجي لكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
لم تكن عمليات الخصخصة في بدايات الثمانينات في بريطانيا عملية سهلة بسبب الصراع مع النقابات، ولكن تم إقناع/إخضاع المجتمع للخصخصة من خلال حياكة خطة مركبة من الترهيب والترغيب، الجانب الترهيبي بدا واضحاً في عملية كسر إضرابات العمال بالحديد والنار على يد تاتشر، وأما الترغيب فكان بإدخال المجتمع والطبقة العاملة في عملية البيع؛ حيث سمح للعمال بشراء أسهم الشركات المخصخصة، ومن ثم تم التلاعب بأسعار الأسهم من قبل الملاك الكبار لتخفيض سعرها ليعود الملاك الكبار لشراء كل الأسهم. وبالمقابل ومع كل حركة باتجاة تحقيق أهداف الطّغم المالية الأوروبية كان يجري تخفيض مستوى معيشة ورفاة الشعوب الأوروبية، مع الحفاظ على توازن هشّ كان يتحقق بحكم الفائض الكبير الناتج عن التبادل اللامتكافئ بين دول المركز والأطراف (وبكلمة أوضح: عبر اللصوصية الغربية تجاه بلدان الأطراف)، حيث كانت تنتقل ثروات الأطراف للمراكز محققة نوعاً من التوازن داخل المجتمعات الغربية، دونها ما كان للمجتمع الغربي أن يستمر طويلاً في سياسته.
جرى ضخ الأفكار النيولبرالية من فوق لتحت، حيث يصبح العامل الأوروبي مهتماً بشكل خاص بحياته الفردية ومعاناته الفردية. حتى المشاكل الكبرى، مثل: البيئة والصحة والتعليم والاقتصاد تحولت إلى مشاكل فردية، فالفرد وحده المسبب للمشاكل ووحده مُطالب بحلّها.
ورغم مقاومة هذه الأفكار من قبل البعض إلا أنها استمرت وانتشرت حتى جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية 2008.
التصدع والانهيار
لم يمض وقت طويل بعد أزمة الركود في العام 2008 حتى انفجرت كل المشاكل المتراكمة دفعة واحدة، وكان الدَّين الإجمالي العام في ذلك الوقت حوالي مرتين من حجم الناتج المحلي الإجمالي. وهذا ما شعرت به الجماهير من خلال مؤشرات الحياة الرئيسة، وهي التوظيف وتطور نمط الحياة والزيادة الحقيقية في الأجور؛ ففي الوقت الذي ارتفع فيه مؤشر الحياة في الصين واستطاع الصينيون تحقيق تغيرات كبيرة في مستوى المعيشة، كانت المؤشرات الأوروبية تتراجع. خلال الخمسين سنة الماضية انخفضت الأجور الحقيقة وازادت ديون المجتمعات واستهلاكها. ومع انخفاض هذه المؤشرات وتراجعها، كما حدث في المجتمعات الغربية، ينتج صدع وإحساس بالهزيمة في البنية الفكرية للمجتمعات، وبالنتيجة فإن ازمة 2008 كشفت حجم الأزمة التي تعاني منها الشركات وعدم قدرتها على العمل والنمو إلا من خلال مزيد من القروض، حتى وصلنا اليوم إلى أن الدَّين العالمي يعادل ثلاثة أضعاف الناتج وهذا يعني أن العالم كله مدين للبنوك والشركات التي قد تفلس واحدة تلو الأخرى، لذا كانت إحدى النتائج غير المباشرة لأزمة 2008 انتهاء حقبة مجموعة كبيرة من الأحزاب السياسية وخاصة الاشتراكية الديمقراطية التي قادت في فترة من الفترات أشد عمليات الخصخصة والتحول النيوليبرالي، لتظهر مجموعة من الأحزاب القومية، والتي دخلت البرلمانات في أوروبا وأنتجت حركات مشابهة لـ «بركست» البريطانية. هذه النزعة، ما هي إلا دليل على تصدع الأفكار التي جرى ضخها لفترات طويلة، فالفكر القومي هو مؤشر على تراجع في القيم المضافة بالاقتصاد العالمي نتيجة الانكفاء الناتج بشكل أساسي عن عقيدة واحدة هي الربح والربح المطلق.
ما بعد أزمة 2020
الأمر لا يتعلق بالجائحة فقط، فالجائحة وصلت لهذا الحد لأن النظام الدولي والنظم الاقتصادية ليست جاهزة لأي حدث غير تقليدي، ولو كان العالم مبنياً بطريقة أخرى لكانت هذه الجائحة بصعوبتها لا تتعدى تأثير «نزلة برد»، ولكن ولأن العالم غارق في الديون، ولأن القوى الاقتصادية تعلمت خلال الفترات السابقة أن الهدف من العملية الاقتصادية تحقيق الربح، فإننا سنبقى في قعر الأزمة مع كورونا أو دونها.
وإن كانت أزمة 2008 قد غيرت العقلية الاجتماعية الأوروبية وأنزلت الملايين للاحتجاج الاقتصادي-الاجتماعي ودفعتهم للعودة للنضال الجماعي الذي غاب لفترة طويلة، فأزمة 2020 ستفعل أكثر من ذلك بكثير. يظهر ذلك من حجم التصدع الهائل بسبب عدم قدرة المنظومة على التجاوب مع الأزمات وترك الشعوب تموت إما من الوباء أو من الجوع، يظهر في مناظر الحكومات العاجزة عن تأمين المستلزمات الطبية ومستلزمات الحياة، ومنظر حكومات «الدول الراقية» وهي تمارس السطو والقرصنة بعضها على بعض لتأمين المستلزمات الطبية التي لا تستيطع هي نفسها إنتاجها. ناهيك عن عجزها عن ضبط السوق العالمية، حيث تصبح هذه الدول تترجى القوى الصاعدة كما تفعل أميركا بمناشدتها الصين للمساعدة ضد كورونا، وبترجيها لروسيا لإيقاف تدهور أسعار النفط، بينما تهب لإنقاذ الشركات بالرصيد المفتوح... كل ذلك سيترك أثراً عميقاً في بنية الإنسان الغربي الذي كان يعتقد أن النظام القائم أشبه بـ«سوبر مان» قادر على إنقاذه دائماً، وهذا ما لم يحصل.
اليوم سيفتح في أوروبا نقاش من نوع آخر، وهو النقاش حول ملكية وسائل الإنتاج ومرافق الصحة والتعليم وكل مرافق الخدمات العامة ووسائلها، وحول بنية الدولة الاقتصادية الاجتماعية. وهذا النقاش سيسمح لقوى جذرية بالصعود لقيادة الأزمة - أو سيقدم الفرصة لها إذا صح التعبير - وإن كانت الإشارة العابرة من وزير المالية الفرنسي الذي هدد الشركات بالتأميم المصطلح الذي ظن الرأسماليين أنه انقرض عاد ليُطرح من جديد. لأن الإفلاسات الكبرى التي يقدر الفيدرالي الأمريكي نتائجها بالكارثية على عدد العاطلين عن العمل ستدفع الجماهير لبناء عقلية جديدة خارج الصندوق القديم.
أزمة 2020 والصدمة الشاملة
في النيوليبرالية أي النظام العالمي الحالي، ثلاث ركائز أساسية، وهي الخصخصة وإلغاء القيود على الأسواق الحرة والنزعة الفردية. ومهما حاول أدعياء النظام الدفاع عنه، فإنهم سيكونون عاجزين عن شرح الهدف من الركائز إذا أصبحت بحد ذاتها خطراً على حياة المجتمعات، فالشعوب الغربية المتضررة الجالسة اليوم في عزلها الإلزمي، الذي وصفه رئيس الأورغواي السابق خوسية موكا بأنه مكان للعزلة وللتفكير بالحياة، ستفكر بهدوء وتنفجر بفكرة جديدة حول العالم.
إن الركائز الثلاث التي بنيت عليها المنظومة، أصبحت اليوم منتهية الصلاحية وواجبة الترحيل. وبات مطلوباً بشكل ملح، خلق أفكار جديدة حول العالم. ومع كل الخسائر التى تحملتها البشرية والطبيعة من النظام القائم، فإن التطور الطبيعي بالقياس مع أزمة 2008 يشير إلى أن الأزمة الحالية ستنهي تماماً كل ما تبقى من النيوليبرالية، لينفتح الطريق واسعاً للبديل، وهو النقيض من كل ما سبق، وهذا مرهون بتطور القوى السياسية الجذرية التي هي نفسها ستفرز وتتطور بتعمق الأزمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 961