واشنطن تفتّش في الدفاتر القديمة!
مَيْل دول المركز الرأسمالي باتجاه إشعال الحروب كمخرج من أزماتها الاقتصادية النابعة من بنيتها بالذات، هو قانون ثابت في مضمونه، يبرهنه تاريخها الدموي بأكمله.
القانون نفسه، ومع حفاظه على مضمونه، حمل أشكالاً جديدة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور السلاح النووي؛ حيث بات شكل الحروب غير المباشرة هو الشكل السائد الذي حكم النصف الثاني من القرن العشرين.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وابتداءً من عملية الانهيار ذاتها، ارتدت الحروب شكلاً جديداً أكثر تركيباً، فهي ليست حروباً غير مباشرة فحسب، بل وبأدوات داخلية في كثير من الأحيان، أدوات الثورات الملونة.
منذ مطلع القرن، وبالترافق مع «الحرب الأمريكية على الإرهاب»، بدأت تظهر بذور شكل جديد من الحروب، مركبة من المباشر وغير المباشر، ولكن طبيعة هذه الحروب «الصغيرة»، إذا ما قيست بحجم الحرب المطلوبة لتصدير الأزمة الرأسمالية، أنتجت حاجة أمريكية للمزيد والمزيد منها بشكل مستمر، حتى باتت الحرب، وتوسيع رقعتها الحرب بشكل مستمر هي الشكل السائد طوال العقد الأول، ونصف العقد الثاني من القرن الحالي.
خلال الأعوام القليلة الماضية، ومع التمظهر الواضح للتوازن الدولي الجديد، ودخول قواه الصاعدة المباشر على الساحات الدولية المختلفة، من موقع مركب (حرب حقيقية على الإرهاب، تطويق وتهدئة للأزمات وفتح الطرق لحلها، مشاريع اقتصادية وتنموية عملاقة)، باتت إمكانية إشعال نقاط توتر جديدة بالنسبة للأمريكي مسألة أكثر تعقيداً، وأصعب منالاً، بل وأعلى خطورة...
في ضوء هذه الإحداثيات، باتت الولايات المتحدة مضطرة للعودة إلى دفاترها القديمة، للبحث فيها عن مشاكل عالقة لنفخ الروح فيها وإشعالها، علّ وعسى تكبر نارها بما يكفي لتدفئة عظام الإمبراطورية الباردة حتى النخاع...
أرضية لنزاعات لاحقة
عمدت قوى الاستعمار القديم –بريطانيا وفرنسا- إلى ترك بؤر توتر في المنطقة استطاعت قوى الاستعمار الجديد –الولايات المتحدة الأمريكية- الاستفادة منها، وجعلها قابلة للإشعال عند الضرورة، وهذا بالضبط ما يتم العمل عليه حالياً، ففي منطقتنا مثلاً، استطاعت تركة سايكس-بيكو أن تخلق القضية الكردية التي ما زال النزاع عليها قائماً حتى اللحظة، ويتم استغلاله ضمن سلة الصراعات البينية الأخرى لاشغال وضرب الكلّ بالكلّ، وفي شرق آسيا تُركت مجموعة من النقاط العالقة التي جرى إشعالها مؤخراً، نذكر منها: إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان والصين، ومدينة هونغ كونغ التي عانت من الاحتلال البريطاني لمدة 152 عاماً، والتي تشهد اليوم أحداث عنف واحتجاجات واسعة، والأزمة الكورية التي كلّما اقتربت من الحل عادت واشنطن لإشعال فتيلها.
آسيا الوسطى نقطة هامّة
ما يجعل آسيا الوسطى نقطة استهداف هامّة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، هو متاخمتها لكل من الصين وروسيا، المهدّدان الأساسيان والأكثر خطراً بالنسبة لها؛ فعند إلقاء نظرة سريعة على أغلب التطورات العالمية في السنوات الماضية نجد أنّ السياسة الأمريكية تلخّصت باستغلال المشاكل الداخلية لدى البلدان (الاقتصادات الهشّة القائمة على السياسات النيوليبرالية الموّلدة للأزمات) وذلك عِبر طرق عدّة، منها: التسليح و«داعش» و«القاعدة» وغيرها، في الوقت الذي تلّخصت فيه السياسة الروسية الصينية بإطفاء هذه الحرائق عبر منطق الحلول السياسية. فالخوف الأمريكي من القوة السياسية والعسكرية الروسية، والقوة الاقتصادية الصينية، جعلها تُشغّل مراكز الأبحاث لديها من أجل دراسة طرق لـ«إرهاق روسيا وخلخلة توازنها» وفق ما ورد في خلاصة تقرير لمؤسسة «RAND» الأمريكية، والذي يمكن أن يُفهم منه بشكل واضح أهمية آسيا الوسطى تحديداً كوسيلة للضغط على روسيا والصين، وفي الجوهر، كوسيلة لقطع طريق الحرير...
التصعيد كَبابٍ للحلّ!
على الرغم من أنّ الحد الأدنى المطلوب أمريكيّاً من التصعيد في نقاط التوتر القديمة والجديدة هو إدامة حالة التوتير، وإحاطة الخصوم بالمشاكل من أجل إشغالهم فيها، إلّا أن التصعيد في هذه الملفات حتى النهاية فتح باب حلّها! ففي الملفات الجديدة، مثل: أزمة مضيق هرمز وحرب الناقلات التي حصلت مؤخراً، لم تستطع الولايات المتحدة وحلفاؤها الخروج بأيّة مكاسب فعلية بل على العكس تماماً، فقد كانت أحد أهم نتائجها هي بداية حدوث تقارب إيراني خليجي يمكن التعويل والبناء عليه في المدى البعيد، وكذلك رفض معظم الدول المشاركة في التحالف الأمريكي البريطاني المزعوم من أجل حفظ أمن المياه الخليجية، ما يعني زيادة العزلة الأمريكية. أمّا في الملفات القديمة فإن فتحها بحد ذاته يشكّل بوابة لحلّها ولا سيّما في هذا الوقت الذي تسعى فيه روسيا والصين والمنظمات البديلة عن تلك التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، تسعى إلى الدخول على خط الأزمات المختلفة من أجل إيجاد تسويات لها، وهذا ما يحدث في الأزمة الهندية الباكستانية، وفي الأزمة الأفغانية، على سبيل المثال لا الحصر.
إذاً ما الهدف؟
إذا كانت كلّ محاولات التوتير الأمريكية تفتح الباب لحلّ المشاكل في المنطقة المعنية بالتوتير، فما الذي يسعى إليه الأمريكيون بالضبط؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بعد توضيح نقطة أساسية مفادها: أنّ التراجع الأمريكي اليوم بات حقيقة واقعة لا يكاد ينكرها أحد، وضمن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في تنظيم تراجعها، يتم العمل على إبطاء تقدّم خصومها السياسيين في كافة المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهذا هو الهدف من منطق العقوبات الذي بات الوصفة السحرية التي تهدّد بها أمريكا كل من يخالفها، فأصحاب القرار الأمريكيون ليسوا أغبياء إلى ذلك الحد الذي يجعلهم يعتقدون بأنّ منطق العقوبات وإشعال الحرائق سيزيد من قوتهم ويجعلهم يستعيدون سيادتهم على العالم، إلّا أنهم يسعون قدر الإمكان إلى إيقاف الاندفاعة السريعة التي يمكن للروس والصينيين وحلفائهم إحرازها، وهذا يجري بالفعل عبر تكبيل العلاقات التجارية، ورفع الرسوم وزيادة التكلفة على الروس والصينيين، من أجل تأمين حدودهم وغيرها من إجراءات التضييق.
إلّا أنه وبالتوازي مع ذلك، فإن هذه السياسة الأمريكية تخلق ضرورات موضوعية للاستغناء عن المنظومات التابعة لها كالدولار و«سويفت» واستبدالها بمنظومات إقليمية قادرة على تأمين متطلبات دول الشرق وزيادة التعاون بينها.
أي: إنّ التحركات الأمريكية التوتيرية حول العالم، باتت أشبه بنقلات إجبارية تخسر واشنطن في كل منها حجراً جديداً من الرقعة، ولكن عزاءها الوحيد هو أن اللعبة لا تزال مستمرة، وأنها لم تستسلم رغم أنّ اللعبة قد حسمت من حيث المبدأ...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 928