من التصعيد إلى السقوط الأمريكي
ملاذ سعد ملاذ سعد

من التصعيد إلى السقوط الأمريكي

تستمر الولايات المتحدة الأمريكية بالسير وفق سياسة دفع الأمور نحو حافة الهاوية، بالنسبة لها والحفاظ على مستوى محدد من الأزمات الدولية، حيث لا حرب محتملة ولا حلّ سريعاً بغاية تعقيد الملفات ومحاولة لاستنزاف الآخرين قدر المستطاع.

باتت هذه السياسة تُشكّل سِمة عامة جديدة لسلوك واشنطن دولياً، من إيران إلى الخليج فسورية وتركيا والصين وروسيا وأوروبا... إلخ جميعها شهدت وتشهد تصعيداً ورفعاً للتوتر إلى الحدّ الأقصى، تتلوها تنازلات وتراجع أمريكي بالتفاهمات والتوافقات الدولية السياسية. إنّ سلوك واشنطن هذا يُعبّر في مضمونه عن حالة الانقسام داخلها، وتوازن القوى في إدارتها، حيث يدفع أحد طرفيها بالأمور نحو الحدّ الأقصى من التوتير، يضع الآخر بسببها بحالة أسوأ من سابقتها في المفاوضات والشروط.

تركيا

منذ محاولة الانقلاب العسكرية في تركيا سابقاً، بدأت الأخيرة وضوحاً بتعديل توجهاتها السياسية بعلاقاتها واتفاقياتها وتحالفاتها شرقاً نحو روسيا، على العكس مما كان سائداً بعلاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، فظهرت «أستانا» وبدأ تقارب تركي- إيراني، وجرى تقدّم بعدة نقاط في الملف السوري على إثر ذلك، وغيرها من الأحداث التي كان آخرها شراء منظومة إس-400 للدفاع الجوي من روسيا، مستبدلة بذلك منظومة «باتريوت» الأمريكية، وبآلية مغايرة تماماً، حيث على العكس من «باتريوت»، سوف تكون منظومة إس-400 ملكاً لتركيا، وليس تحت إمرة وقرار أحدٍ غيرها، الأمر الذي شكل تهديداً لواشنطن ليس على المستوى التركي فحسب، بل والعالمي، حيث خطوة كهذه من حليفٍ تاريخي لها ستكون لها تداعيات سياسية وعسكرية تؤثر سلباً على دور واشنطن في المنطقة بتأثيرها ووجودها، فضلاً عن امتلاك تركيا آلية ردع جوية متطورة خاصة بها تُقيّد واشنطن من خلالها. فلم تستطع الأخيرة على مواجهة هذه التطور سوى بمحاولات التصعيد والتوتير بينها وبين أنقرة كآلية ضغطٍ، عبر فرض العقوبات الاقتصادية مراراً، ومؤخراً إيقاف تدريب الطيارين الأتراك وإنهاء المشاركة التركية كلياً في برنامج مقاتلات إف-35. إلّا أنّ تطور الأحداث يظهر أن هذه الإجراءات قد سرّعت عملياً من إتمام صفقة إس-400 وبالمحصلة وضعت تركيا في موقع أفضل مما كان سابقاً بعلاقتها مع واشنطن، وبالردّ على ما يخصّ إف-35 صرّح الأتراك أن بلادهم لن تتراجع على الإطلاق عن امتلاك منظومة إس-400، وتوعد أردوغان بالرد على القرار الأمريكي قائلاً: «سنحاسب على إقصائنا من مشروع إف-35» وصولاً إلى يوم السبت 15 حزيران حيث جرى تداول أخبار غير رسمية «نقلاً عن مصادر» داخل البنتاغون أقوالاً مفادها: أنّ العلاقة بين واشنطن وأنقرة ستستمر حتى إذا أصرت تركيا على المضي قدما في شراء منظومة إس 400 وإخراجها من برنامج إف – 35، مشيرين إلى أنّ كل القرارات قابلة للتغير والتراجع.

إيران

فيما يخصّ إيران والخليج، حيث جرت عدة حوادث بحرية في الشهرين الماضيين بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية والخلافات حول الاتفاق النووي الإيراني، وصلت على إثرها العلاقات الإيرانية- الأمريكية إلى أدنى مستوى دبلوماسي، وأعلى أشكال التصعيد العسكري، ووصلت حدّ التهديدات المتبادلة بالحرب، والتي لا تزال مستمرة رغم قناعتنا بانعدام احتمالية هذا الأمر، حيث إن الولايات المتحدة اليوم لم تعد قادرة على بدء أيّة حربٍ، فضلاً عن خسارتها الأكيدة بها اقتصادياً وسياسياً. مما يرفع سؤالاً: إذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على الدخول إلى الحرب، وليس بإمكانها التحكم بإيران أو فرض أيّ من مصالحها عليها، لمَ التصعيد؟ الإجابة هنا توجد في الطرف الآخر، في دول الخليج العربي والسعودية تحديداً، حيث رفع مستوى التهديدات الأمنية عليها، وتصعيد التوتر بعلاقاتها مع جيرانها، يجعلهم أكثر اعتماداً على حليفتهم التاريخية بغاية «الحماية» والتي عبّر ترامب سابقاً بأنّ على الخليجيين «الدفع» بمقابلها. لكنّ على طول الخطّ ورغم رفع مستويات التوتر والتصعيد، باتت تُنذر الأمور بتطورات بعكس المصلحة الأمريكية، حيث قد يصبح دافع «عدم الرغبة بالحرب» من إيران والسعودية نقطة التقاء تفتح خلفها باباً للتفاهمات بمعزل عن واشنطن وبرعاية روسية. مما جعل واشنطن ومن بين «تصريحاتهم النارية» تدفع إلى الواجهة حلفاءهم من أوروبا واليابان إلى «الوساطة» في محاولات للتهدئة، مما وضع واشنطن في المحصلة بموقع أضعف، وصنع لإيران شروطاً أفضل.

روسيا والصين

أمرٌ مماثلٌ جرى مع كلٍّ من بكين وموسكو، فالحرب التجارية الجارية بين الولايات المتحدة والصين والعقوبات الاقتصادية على الأخيرة قد أنتجت في المحصلة مشاكل أكبر لواشنطن ليس فقط على المستوى الدولي بل ووصولاً إلى الداخلي، حيث ظهرت آثار الحرب هذه على الشعب الأمريكي نفسه أولاً بارتفاع أسعار العديد من السلع والبضائع المستوردة، فضلاً عن انقطاع غيرها التي كان مُصدّرها الأساسي الصين، مما وضع الولايات المتحدة في موقفٍ أصعب وأكثر حرجاً. ومع روسيا الأمر مشابه، حيث مع كل خُطوة تصعيد سابقة اتجاهها وتوازيها مع خطوات التراجع والهزائم الأمريكية أدت إلى الإسراع من صعود روسيا دولياً، كحاملٍ لتوجه سياسي مبني على احترام سيادة واستقلال الدول، بتطور عسكري بات الأول عالمياً، مما أدى إلى بدء انشقاق حلفاء واشنطن عنها وتوجههم شرقاً، وفي المحصلة: موقفاً أضعف للولايات المتحدة، وشروطاً أفضل لروسيا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
918
آخر تعديل على الإثنين, 17 حزيران/يونيو 2019 12:51