التصعيد الأمريكي- الإيراني: مَن يُهدد مَن؟!
باتت احتمالية اندلاع مواجهة عسكرية أمريكية- إيرانية مباشرة في أقل نسبها، ليس بسبب تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه «يأمل بألّا تتجه بلاده إلى حرب مع إيران»، فالأمر كان كذلك منذ البداية، أمّا حرب التصريحات على الجبهة السياسية والإعلامية خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى التحركات الميدانية من الطرفين على مستوى الإقليم، فهي ليست سوى استعراضات متبادلة لقدرات الردع، و«استعداداً للحرب يمنع الحرب»
إذاً، فالمواجهة المرتقبة هي استكمال المواجهة غير المباشرة التي دامت لعقود، ولكن ضمن مرحلة جديدة، مع بقاء احتمالية التصعيد العسكري قائمة، ولكن ضمن سياق الصراع متعدد الإحداثيات، السياسي والاقتصادي والعسكري، وفقاً لأبعاده الدولية والإقليمية وبمشاركة الفاعلين الكبار.
الداخل الإيراني: الجبهة الأخطر
فيما تتوجه أنظار العالم إلى سيناريوهات المواجهة العسكرية الأمريكية- الإيرانية المحتملة، يغفل الكثير من المتابعين عن حال الداخل الإيراني، فالخطوات الأمريكية ضد إيران، والتي بدت كتمهيدٍ لحربٍ عسكريةٍ كانت هي المبتغى الأمريكي الأساس؛ البداية كانت مع انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني، ثم تشديد العقوبات لتصفير النفط الإيراني- منع بيعه- وفرض عقوبات على قطاع المعادن الذي يأتي ثانياً بالترتيب بعد القطاع النفطي، ويشكل 10% من الصادرات الإيرانية ويعمل به حوالي 600 ألف عامل يعيلون ثلاثة ملايين مواطن. كذلك قطاع السيارات الذي يعمل فيه مليون شخص، والذي كان قد تراجع حتى قبل العقوبات إلى 40%. بنظرة بسيطة إلى هذه المعطيات، يتبين: أن الإدارة الأمريكية استثمرت كل هوامش الصراع الاقتصادي مع الجمهورية الإسلامية حتى أدقّها، بما قد يدفع الأمور إلى تفجّر أزمة داخلية فيها، ويفسح المجال أمام بازار مرتقب تسعى إليه إدارة ترامب لفرض تنازلات على إيران وحلفائها الدوليين.
إلامَ ترمي أمريكا؟!
لا يمكن فصل التصعيد الأخير عن مجموعة من الخطوات التصعيدية السابقة التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي بإيجاز:
الاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل».
قرار «ضم» الجولان للكيان الصهيوني.
تصنيف الحرس الثوري الإيراني كـ «فصيل إرهابي»
تصنيف حركة «الإخوان المسلمين» كحركة إرهابية، وهو تصنيف لافت في توقيته، فبالرغم من التحالف التاريخي للحركة بمعظم فروعها مع الغرب، البريطاني- الأمريكي بنحو أساسي، إلا أن هذا التصنيف في الوقت الحالي يخدم هدفاً مركباً؛ فهو من جهة جائزة ترضية للحلفاء السعوديين والإماراتيين وتيار الفلول في القيادة المصرية، مقابل تهيئة المناخ للهجوم على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتعميق الشرخ في الصف الفلسطيني، والضغط على القيادة التركية ذات المرجعية الإخوانية للعودة إلى حضن الناتو بعد جنوحها شرقاً في الآونة الأخيرة ضمن فضاء أستانا الجديد.
في سياقٍ موازٍ يأتي دعم حكومة نتنياهو من خلال الخطوات السابقة في الانتخابات «الإسرائيلية» الأخيرة، وتقوية شوكته كممثل أساسي للتحالف التاريخي
الأمريكي- الصهيوني، ومُنسقٍ لهذا الحلف في إدارة الصراع مع قوى المقاومة.
هل هي «صفقة القرن»؟
مع مجيء دونالد ترامب إلى الإدارة الأمريكية بدأت وسائل إعلام عالمية بتداول مقولة «صفقة القرن» للإشارة إلى تسوية مقترحة أو مفروضة من الإدارة الأمريكية للقضية الفلسطينية، واتسعت دائرة تداولها حتى ضمن الأوساط الوطنية والمقاومة العربية والفلسطينية. بالرغم من أن تلك المقولة تشير إلى تصور أمريكي معين لتسوية القضية الفلسطينية، إلا أن المحتوى التآمري فيها واضح ومعلن ومطلوب منه دَبّ الخِشية في سريرة الفاعلين والمتضامنين مع القضية (نزالات القرن تقليد معروف شبه سنوي في الفنون القتالية في الولايات المتحدة).
فعلياً، المطلوب من الحديث عن «صفقة القرن» هو صفقة أخرى أقل سقفاً؛ طالما أن الولايات المتحدة ترفع سقوف المطالب على مستوى القضية الفلسطينية، فيمكن في نهاية المطاف، وبعد تفاوض معين الحفاظ على بعض المكاسب في ظل تراجع وزن الولايات المتحدة الأمريكية الدولي بحكم الأزمة الرأسمالية العالمية.
هل هي «الضغوط القصوى»؟!
لا ينفك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يُصدّر ذاته في خطبه المختلفة على أنه لا يترك أوسع الهوامش وأضيقها لتحصيل «أتعاب» أمريكا في مختلف الملفات من الحلفاء والأعداء على حد سواء، ولا يتوقف عن ترديد مثال السعودية كطرف مطيع و«دفّيع» مقابل خدمات دفاعية أمريكية مفترضة، ويُصدّر هذا المثال كنموذج أميركي جديد في التعامل مع «الحليف»، فماذا عن العدو؟
يعتقد كثيرون: أن ترامب يستلهم سياسته الحالية من إستراتيجية الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، والمسماة بـ «الضغوط القصوى»، والتي مورست ضد الاتحاد السوفييتي آنذاك وأدت إلى انهياره، وفقاً لأصحاب هذا الرأي، ويقصد بهذه الإستراتيجية أن الضغوط الاقتصادية والسياسية المستمرة بأقصى أشكالها تؤدي إلى انهيار نظام البلد المنافس دون إطلاق رصاصة واحدة، بل من خلال خلق أزمة حكم وإدارة، وصولاً إلى انفجار داخلي.
من حيث الشكل، تشبه الضغوط الأمريكية الحالية ضد إيران سياسة «الضغوط القصوى»، الا أن الظروف قد تغيرت كثيراً مقارنة مع ثمانينات القرن الماضي، فالعدو الذي كان آنذاك الاتحاد السوفييتي كان متراجعاً، فيما يجري العكس حالياً؛
الولايات المتحدة تنكفئ نحو الداخل وتسعى إلى التمركز على جبهاتها التقليدية وسط اتساع دائرة الخصوم الدوليين الصاعدين سياسياً واقتصادياً.
أستانا وراء القصد
سرّع ظهور فضاء أستانا الجديد من تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة. ذلك الفضاء الذي افتتح عقده مع ترويكا أستانا، روسيا تركيا إيران، ودَفْع الأزمة السورية خطوات إلى طريق الحل، وبذلك أصبح نواة تحالف شرقي جديد، تتزايد قوته باستمرار مع احتمالية انضمام دول جديدة له في وسط آسيا وشرقها.
ويأتي التصعيد الأمريكي الأخير ضد إيران كمحاولة استباقية للحفاظ على معاقل النفوذ الغربية الكلاسيكية في المنطقة. فهذا التصعيد يتخذ من حيث الشكل طابعاً هجومياً، إلّا أنّ قراءة معمّقة لتفاصيله تكشف عن جوهره الدفاعي النشيط. فترامب كرجل أعمال محترف يجيد إدارة الشركات الغارقة أيضاً، من خلال زج كل الأوراق في الصراع لتصفية ما تبقّى بأفضل وضعية ممكنة.
ضمن السياق ذاته، يمكن فهم تزايد الدعم الأمريكي لـ «إسرائيل»، فعلى عكس ما يبدو بأنه تمهيدٌ لما سُمي «صفقة قرن» سوف تفرض مزيداً من التنازلات على الفلسطينيين، يكشف هذا الدعم عن جانب من عملية انسحاب الولايات المتحدة إلى
معاقلها التقليدية؛ بمعنى أنّ الأولوية الأمريكية باتت في الحفاظ على دور الكيان الصهيوني بالحد الأدنى بعد فشل الرهان في العديد من بؤر التوتر وبالأخص في سورية. إذاً، يمكن اعتبار العودة إلى «إسرائيل» جزءاً من الانكفاء الأمريكي نحو الداخل، إذا نظرنا إلى الكيان الصهيوني بوصفه امتداداً لذلك الداخل بالمعنى الإستراتيجي والسياسي.
رسائل ضِمنية
تلتزم التصريحات الروسية والصينية حيال التصعيد الأمريكي- الإيراني لهجة الحذر والدقة. ففي حين لا يرغب ساسة البلدين بالتفريط بفرصة إظهار واشنطن رغبتها بالتقارب مع موسكو وبكين مجدداً، يبقى المجال مفتوحاً للإيرانيين باستعراض قدراتهم الدفاعية ليس ضمن حدود المواجهة العسكرية المباشرة فقط، بل وعبر الغمز من خلال أقنية متعددة وحليفة لطهران باحتمالية توسيع دائرة الرد على مستوى الإقليم، وخوض حرب مركّبة ضد المصالح الأمريكية في المنطقة ككل. وفي هذا الإطار، يُعدّ تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ بلاده «لا تعمل إطفائية حرائق»، ودفعه الكرة إلى ملعب الأوربيين للحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني، مع حضّه طهران على عدم الانسحاب منه، إشارة ضمنية لعدم التفريط بمكسب الملف النووي وإلى أن الولايات المتحدة ستتراجع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 914