الجزائر: أسئلة مكررة بانتظار إجابات جديدة

الجزائر: أسئلة مكررة بانتظار إجابات جديدة

تجاوزت الحركة الشعبية في الجزائر امتحانها الأول بنجاح، متمسكة بالسلمية ورفض التدخلات الخارجية ورفض أي انقسام على أسس قومية أو دينية أو طائفية. وعلى أهمية هذه المبادئ، لكنها لا تجيب عن جملة الأسئلة الأكثر تعقيداً التي لم يجر حلها عملياً حتى الآن، وحتى في الإطار النظري يصعب القول: إنّ هنالك إجابات ناجزة عنها...

السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً: ما هي الخطوة التالية بعد إعلان الاستقالة؟ ومن هذا السؤال تتوالد مجموعة أسئلة عملية ونظرية: ما هو الموقف من الجيش؟ هل ينبغي البقاء بالشارع، كيف وإلى متى؟ كيف ستتم عملية تغيير النظام؟

أولاً: التغييرات الشكلية

تعلمت الحركة الشعبية الجزائرية من التجربتين المصرية والتونسية أن تغيير الرئيس لا يعني تغيير النظام، بل في الحالتين سالفتي الذكر فإنّ تغيير الرئيس كان التفافاً على الناس لإبقاء النظام نفسه، بفساده وبمنظومته القمعية وبمنظومة علاقاته وارتباطاته الدولية نفسها. ولذا فإنّ الحركة التي أنجزت خطوة في إطار عملية التغيير، تظهر حرصاً شديداً على متابعة الطريق حتى نهايته، حتى الوصول إلى التغييرات العميقة والجذرية المطلوبة، وهذا بحد ذاته تطور مهم في وعي ونضج الحركة.

ثانياً: الموقف من الجيش

الموقف الذي اتخذته قيادة الجيش الجزائري بوقوفها إلى جانب المطلب الشعبي الداعي إلى امتناع بوتفليقة عن الترشح لعهدة جديدة وصولاً إلى استقالته، وبالأحرى إقالته، أعاد إلى أذهان الجزائريين الصورة المصرية التي كان من إيجابياتها تجنيب البلاد الدخول في صراع دموي واسع، ولكن من سلبياتها الظاهرة أنها كرست النظام السابق، واستكملت طريق «تطوره» الطبيعي نحو مزيد من الفساد وإضعاف الدولة وتأزيم المجتمع.
بحكم هذه المقارنة، يظهر طرحان متطرفان، الأول: يدعو نحو ثقة مطلقة بالجيش تصل حد تسليمه زمام إدارة المرحلة اللاحقة. والثاني: يدعو إلى التشكيك به بشكل مطلق يصل إلى حد مناصبته العداء استباقاً لسيناريو «حكم العسكر».
السلوك العملي المطلوب لتحقيق عملية التغيير لا يزال غير واضح المعالم بشكل كامل، ولكن الأكيد في هذه المسألة الرئيسة والحساسة، أمرين، الأول: أنّ مؤسسة الجيش هي في نهاية المطاف إحدى مؤسسات النظام الجزائري المطلوب تغييره. والثاني: هو أنّ مناصبة مؤسسة الجيش العداء سيمنع عملية التغيير، وسيفتح الباب أمام شتى أشكال الفوضى.
بكلام آخر، يمكن القول: إنّ السلوك العملي الصحيح يقع بين الحدين المتطرفين، فالتسليم للجيش لا يمكن أن يكون ضمانة للتغيير، ومعاداته هي ضمانة أكيدة لتعقيد وإطالة عمر عملية التغيير.

ثالثاً: هل ينبغي البقاء في الشارع؟

متابعة النقاشات الجارية بين الجزائريين، تسمح بالقول: إنّ الموقف السائد تجاه الجيش هو موقف متوازن بعيد عن الحدين المتطرفين، والمؤشر الأكثر أهمية على ذلك هو الطرح المركب الذي يجري تقديمه؛ فمن جهة هنالك تعبير واضح عن تقدير الحركة لموقف الجيش منها ومن الرئيس بوتفليقة، ومن جهة ثانية هنالك إصرار على متابعة الحركة حتى الوصول للتغيير المطلوب. وفي عقول وقلوب الجزائريين تخوُّف محق من الالتفاف على حركتهم عبر تغييرات شكلية، الأمر الذي يدفعهم رغم تقديرهم لموقف الجيش إلى الثقة بأنفسهم فقط، ويجري التعبير عن ذلك بالدعوات القائلة بضرورة البقاء في الشارع حتى الوصول للأهداف.
ما ينبغي الانتباه له ضمن هذا الطرح، أنّ الالتفاف على الحركة ممكن حتى وهي تملأ الشوارع، هذا ما جرى فعلاً في أماكن عديدة في أوروبا الشرقية وفي البلدان العربية. ولذا فإنّ مقولة البقاء في الشارع يمكن أن تكون صحيحة فقط إذا لم تؤخذ بحرفيتها... أي: أنّ المطلوب هو استمرار تطوير الحركة ورفع درجة تنظيمها ووعيها، وتوسيع أشكال تعبيرها وضغطها لتحقيق التغيير، وليس فقط بقاءها ضمن شكل المظاهرات. هذا لا يعني التخلي عن شكل التظاهر، ولكنه يعني الالتفات السريع نحو تطوير الأشكال الأخرى، وخاصة الأشكال المرتبطة مباشرة بالواقع الاقتصادي الاجتماعي، أي: اشتغال العمال والموظفين على تنظيم صفوفهم والبدء بوضع البرنامج الملموس لعملية التغيير.

رابعاً: برنامج التغيير

إنّ من السمات التي باتت واضحة ومكررة في شتى أنواع الثورات المضادة، السلمية منها وغير السلمية، هي اختصار برنامج التغيير ضمن الحقل (السياسي- الديمقراطي) العام، وتغييب الجوهر الاقتصادي الاجتماعي، بل والهجوم الشديد على كل من يقول بجوهرية النضال من أجل التغييرات الاقتصادية- الاجتماعية، ومحاولة تسخيف طروحاته، وصولاً إلى اتهامه بأنه «إصلاحي» بمقابل «ثورية وجذرية» من يضعون الأولوية الأولى والوحيدة في التغييرات السياسية والقانونية والديمقراطية العامة.
إنّ كل دعوة لتحييد البرنامج الاقتصادي الاجتماعي أو للتقليل من أهميته ينبغي لها أن تفهم بطريقة واحدة من الحركة الجماهيرية على أنها جوهر عملية إعادة إنتاج النظام التي يقودها فاسدون ضمنه أو فاسدون خارجه، والهدف هو خلق شكل جديد للنهب القديم نفسه عبر تحاصص ما بينهما. ولذلك فإنّ دفع البرنامج الاقتصادي الاجتماعي للتغيير إلى الواجهة هو كلمة السر الأساسية التي تقطع دابر أية محاولة للالتفاف على الحركة أياً كان مصدرها...

خامساً: التغيير عملية طويلة ومتدرجة

بين الطروحات الأكثر خطورة التي تروج لها جهات تدعي أنها «يسارية»، وبشكل خاص التروتسكية منها، هي تلك الطروحات التي ترفض بشكل استباقي أي: تدرج في عملية التغيير، بل وتحاول دفع الناس إلى موقف معادٍ للجيش بشكل استباقي، مصرة في الوقت نفسه على البقاء في الشارع ضمن شكل التظاهر البسيط فقط، ودون أي حديث جدي عن ضرورة دفع البرنامج الاقتصادي الاجتماعي إلى الواجهة، بل التركيز على حديث عام عن «مجلس تأسيسي» هو أقرب إلى «مجلس قيادة ثورة» وبالأحرى «مجلس قيادة انقلاب»، وأنّ كل هدف آخر سيجري تحقيقه بعد الوصول إلى هذا «المجلس».
إنّ مجرد ضلوع التروتسكيين و«أمميتهم الرابعة» في هذا الطرح، يرسم حوله إشارات استفهام كبرى، وهم الذين سبق لهم أن دعموا شتى أشكال الثورات الملونة في أوروبا الشرقية التي دمرت دولها وحولتها إلى تابع ذليل وفقير على أبواب الغرب. ولكن بغض النظر عن أصحاب الطرح، لا بدّ من الانتباه إلى جملة من النتائج التي بات من غير الممكن السير خطوة واحدة إلى الأمام بالمعنى الثوري دون استيعابها:
- الثورات بشكلها القديم، سواء الذي جرى في الثورة الفرنسية أو في ثورة أكتوبر أو في كوبا، ليس قابلاً للتكرار بشكله الذي جرى فيه.
- إحدى المشتركات بين هذه الثورات، رغم التباين الهائل بينها، هي أن جهاز الدولة في عصرها كان لا يزال مجهرياً من حيث درجة تضخمه مقارنة بجهاز الدولة في أيامنا هذه، ولذا كانت عملية وصول الطبقة الجديدة إلى السلطة هي مفتاح عملية التغيير التي تمتد بعد ذلك سنوات طويلة حتى تحقق أهدافها.
- في عصرنا هذا، فإنّ وصول الطبقة الجديدة وممثليها إلى السلطة، هو أمر أشد تعقيداً بمراحل، والافتراض النظري الذي نعتقد أنه يستحق التجربة (يستحق بالتأكيد لأن تكرار التجربة نفسها في ظروف مختلفة مع انتظار النتائج نفسها مناقض لقوانين الحياة) هو بدء عملية التغيير بالتوازي مع استمرار سعي الطبقة الجديدة للسيطرة على السلطة. وبالأحرى، فإنّ بدء عملية التغيير بشكل تدريجي عبر تحقيق إنجازات جزئية هنا وهناك، تحقيق إنجاز جديد كل يوم، وفي المجال الاقتصادي الاجتماعي خاصة، هو الطريق الأساسي لإنهاء مقاومة النظام القديم وتكبيله عبر انضمام جماهير أوسع وأوسع إلى برنامج تغيير تفصيلي، يتضح هو الآخر بشكل أكبر يوماً بعد يوم، وإنجازاً وراء إنجاز.

معلومات إضافية

العدد رقم:
908
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2019 13:55