إستراتيجية ترامب «إفريقيا المزدهرة» ...اعترافٌ بالهزيمة
أعلن مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية جون بولتون مؤخراً عن الإستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب المسماة «إفريقيا المزدهرة» التي هي اعترافٌ ضمني بالهزيمة، معبرة من خلالها عن عدم تحقيق الولايات المتحدة أهدافها في إفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة، ولكنها أيضاً فخٌ غايته دفع روسيا والصين إلى التوسع والمواجهة في هذه القارة ضمن سياق الصراع الجاري فيما بين عالمي القطب الواحد، والمتعدد الأقطاب.
الاعتراف بالهزيمة
أعلنت إدارة ترامب عن إستراتيجيتها الجديدة هذه يوم الخميس 13 كانون الأول، لتأتي في سياق سياسة ترامب «أمريكا أولاً» فيما يخص علاقتها بإفريقيا من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية، حيث أكد بولتون بأن هذه الخطوة الجديدة سوف تركز على العلاقات التجارية، والتعاون على «محاربة الإرهاب»، وعلى عمليات الإدارة الجيدة للمساعدات بما فيها «عمليات حفظ السلام»، حيث أن كل ذلك سوف يعزز من أجندة أمريكا في إفريقيا، في الحقيقة لم يشأ بولتون الاعتراف علناً بأن بلاده فشلت بتحقيق أهدافها في هذا الجزء من العالم منذ نهاية الحرب الباردة، الأمر الذي أوجد فرصاً لمنافسي بلاده الصين وروسيا هناك.
الخاسر الحزين
قضى بولتون مدة طويلة من وقته يتباكى على اتساع نفوذ الاقتصاد الصيني في أرجاء القارة مهاجماً مبادرة «الحزام والطريق» عبر الاتهامات التقليدية بأنها أوقعت البلدان المشاركة في «أفخخ من الديون»، وقد شدد صارخاً بأن ميزان القوى في «القرن الإفريقي» حالياً يفرّق فيما بين شرايين رئيسة من التجارة البحرية بين أوروبا وشرق المتوسط وجنوب آسيا لصالح الصين. أما بالنسبة لروسيا فقد اتهمها بولتون بـ«إفساد الاتفاقيات الاقتصادية»، «بيع الأسلحة والطاقة بمقابل أصواتٍ داعمة في الأمم المتحدة»، و«استمرارها باستخراج الموارد الطبيعية من المنطقة لصالحها وحدها».
نوبة من الأخبار الكاذبة
بكلمات أخرى، الأخطاء المكررة من أمريكا على طول العقدين والنصف الماضيين منذ نهاية الحرب الباردة، سمحت للصين بالدخول بوصفها الشريك الاقتصادي الأول لإفريقيا، بينما تفتح روسيا طريقاً لها لتصبح مزوداً موثوقاً للأمن والاستقرار في مقابل عقود الاستخراج، لتكمّل هاتين القوتين بعضهما في سياق التعددية القطبية، ويحطمان بشكل جماعي الاحتكار الأحادي الذي سيطر سابقاً على المنطقة... لكن بولتون يؤمن بأن روسيا والصين قد «جمّدتا النمو الاقتصادي في إفريقيا، وتهددان الاستقلالية المالية للدول الإفريقية، ويعيقان فرص استثمار أمريكية، تتعارض مع العمليات العسكرية الأمريكية، وتشكل خطراً حقيقياً على مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة»، ولكن وحدها آخر جملة قالها بولتون هي الصحيحة بينهم. فالاقتصاد الإفريقي يتعاظم، والدول الإفريقية قد نوّعت من شركائها في هذا الجانب، والاحتكارات الأمريكية أخيراً وُجد لها منافس، بالإضافة إلى كونها تتراجع طواعية في أنشطتها العسكرية بغاية التركيز بشكل مباشر على محاولة «احتواء» روسيا والصين في بلدانهم.
التهديد الصيني- الروسي على السيطرة الأمريكية
إن السبب الوحيد لكل ما سبق بأن يعتبر «تهديداً حقيقياً» هو عدم استطاعة الولايات المتحدة على التدخل بالشؤون الإفريقية بقدر ما تتمنى فعل ذلك الآن بغاية اعتراض الشراكة الإستراتيجية الصينية- الإفريقية والتي تشكل نواة النجاح الصيني في المستقبل. فالخارطة الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين التي ينبثق خلالها الآن عالم متعدد الأقطاب يجعل الصين فيه بحاجة الأسواق وقوة العمل والموارد الإفريقية بغاية تأمين نموها المستمر واستقراره، لتصبح قوة لا يستهان بها عالمياً، وبالتالي تأتي المصلحة المتبادلة مع إفريقيا التي تساعدها الصين في التطور والنمو.
«إفريقيا المزدهرة»
الرد على الاعتراف الشخصي بالفشل على مدى عقود قامت الولايات المتحدة بصنع إستراتيجيتها الجديدة هذه بكونها الحل المطلوب، على الرغم من أن بولتون كان غامضاً حول ما تحتويه هذه الإستراتيجية، وما هي أدوات تطبيقها. فبالنسبة لرجل أعمال قد أصبح رئيساً فهو يعلم تماماً مدى حاجة بلاده بأن تدعم الاستثمارات الأمريكية في إفريقيا وتضع الرهانات على مجابهة المشاريع الصينية، وبالتوافق مع هذا تحدث بولتون عن «تعزيز السيادة القانونية» فربما يكون هذا تلميحاً عن كيفية تطبيق هذه الإستراتيجية.. بمنطق «الحروب الهجينة».
استنتاجات ختامية
إستراتيجية «إفريقيا المزدهرة» هذه التي أعلن عنها حديثاً لا تبدو أكثر من مجرد اعتراف بالهزيمة الأمريكية في القارة الإفريقية، وبأن الولايات المتحدة ستقوم بناءً عليه بسحب قواتها العسكرية من هناك في مقابل إعادة ترتيب الأولويات لصالح نشاطها الاقتصادي. وعلى الرغم من صحة هذا الأمر، لا يجب على المراقبين التوهم بأن الولايات المتحدة ستستسلم وتسلّم هيمنتها السابقة دون مقاومة. فما تحاول فعله أمريكا في الحقيقة هو تصنيع فخ لمنافسيها الصين وروسيا في إفريقيا لإغوائهم إليه عبر خليط من الفراغات الأمنية «ربما بعد سحب الدعم عن عمليات حفظ السلام مستقبلاً» والحروب الهجينة والثورات الملونة المدعومة من قِبلها... حصيلة هذه المناورات بهذا المعنى لا تزال بعيدة عن التأكيد، ولكن ما هو واضح حتى الآن، هو: أن «الحرب الباردة الجديدة» قد امتدت رسمياً إلى إفريقيا.