الخلاص الفلسطيني من الشر الأمريكي
اتخذت الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة عدة قرارات تستهدف القضية الفلسطينية، سواء من خلال وقف تمويل الأونروا، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتخفيض المخصّصات المالية للسلطة، وطرد السفير الفلسطيني من واشنطن... قرارات يمكن وصفها بالمحصلة بتخفيض مستوى التأثير الأمريكي على القضية الفلسطينية.
يتزامن هذا السلوك الأمريكي مع مرور خمسة وعشرين عاماً على اتفاقية «أوسلو» تحت السقف الأمريكي عام 1993، التي أسست لتبعية السلطة للدول المانحة، وتمهيد الطريق لتنامي دور منظمات الـ «Ngos»، وربط الاقتصاد الفلسطيني بدولة الاحتلال، والتنسيق الأمني. تلا ذلك عقدان ونصف من مفاوضات عبثية مع دولة الاحتلال، برعاية أمريكية، أدت بالنتيجة إلى مزيد من المستوطنات وتوسّع رقعة الاحتلال، انتهاءً بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان.
تحييد المال السياسي الأمريكي
إذا كانت «أوسلو» وما تلاها، هي أحدى مفرزات زمن الهيمنة الأمريكية، وأحد أسباب تسلطها على القرار الفلسطيني من بوابة المنح والمساعدات المالية، فإن تراجع الأمريكي عموماً، وانخفاض مستوى المال السياسي الأمريكي الممنوح للفلسطينيين تحديداً، يعني: تهيئة العامل الموضوعي للتحرر الفلسطيني من الإرادة الأمريكية المنحازة لمصالح الاحتلال، مما يتطلب بالضرورة التقاط اللحظة فلسطينياً والبناء عليها في الخيارات الإستراتيجية اللاحقة.
تكبير زاوية الرؤية
لكي نستطيع تفسير السلوك الأمريكي اتجاه فلسطين تفسيراً صحيحاً، من الضروري ربطه مع المتغيرات الدولية الجارية. تقوم واشنطن بابتزاز الجميع، روسيا والصين تركيا وإيران، وحتى حلفائها الأوروبيين. والضغط عليهم، انطلاقاً من حقيقة، أنه هنالك أزمة قائمة في الغرب مالياً واقتصادياً، وهي بذلك تحاول عرقلة تقدم القوى الصاعدة، وتوزيع الضرر من الأزمة على الجميع. لذلك تعيق حلولاً في ملفات معينة، وتحاول إشعال ملفات أخرى. وهي بسلوكها هذا توحد المتضررين منها في خندق واحد، كما حدث مع تركيا التي كانت لوقت قريب حليفةً لواشنطن.
في الحالة الفلسطينية، أمريكا ليس لديها رصيد لا لدى الشعب الفلسطيني ولا لدى جزء كبير من القوى والفصائل، باستثناء فئة من المستفيدين والمرتبطين برأس المال العالمي، من بوابة المنح والمساعدات و«المنظمات غير الحكومية» التي تتطلب بالمقابل مواقف سياسية محددة.
لذلك، وعطفاً على المتغيرات الدولية الجارية، فإن الضغوط الأمريكية على الفلسطينيين اليوم مهمة وجيدة في سياق استكمال عملية الفرز، والتخلص من المعيقات المتمثلة بالمال السياسي وحوامله في الداخل الفلسطيني، ومحاولاتهم الحثيثة لحرف بوصلة النضال الفلسطيني عن مسارها الصحيح. وهي ضرورية أيضاً من أجل البحث عن حلولٍ تحت مظلة قوى دولية جديدة، تسعى جدّياً إلى حل الأزمات بناءً على القرارات الدولية، مثل: روسيا والصين، التي يزداد وزنها اليوم في المؤسسات الدولية التي طالما هيمنت عليها واشنطن.
مبررات وجود الكيان
يحاول الكيان الصهيوني اليوم استغلال قرارات واشنطن، وترجمتها فعلاً على الأرض من خلال إصدار قانون «القومية اليهودية»، والعمل على استهداف «الأقصى»، وتغيير حدود القدس من خلال تهجير أهالي «الخان الأحمر» وتوسيع مستوطنة «معاليه أدوميم».
لكن على الجانب الآخر، فإن الفلسطينيين مستمرون في إرباك العدو والاشتباك معه على طول الحدود الغزية. لذلك فإن ضغط الاحتلال ومن ورائه الضغط الأمريكي، لن يولد سوى مزيد من الحراك الشعبي، وهو ما تدركه حكومة الاحتلال، وهو ما حذر منه رئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، بقوله: إن قرار الولايات المتحدة بخنق السلطة الفلسطينية مالياً يأتي بنتائج عكسية لـ «إسرائيل» ويمكن أن يسبب «اضطرابات» في الضفة الغربية.
مما لاشك فيه، أن واشنطن تستخدم الكيان كأداةٍ لتنفيذ أجنداتها في المنطقة، لذلك يبدو أن واشنطن مضطرة لتقديم دعم ما له طالما أنه يشكل ذراعها في المنطقة، وله دور محدد ينبغي القيام به، ولكن مع استكمال الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وهو ما سيحدث عاجلاً أم آجلاً بحكم التغير الجاري في موازين القوى، فإن الكيان سوف ينتهي الدور المطلوب منه، لتصبح مبررات وجوده مطروحة جدياً على طاولة البحث، وهو ما يتطلب اليوم من القوى الفلسطينية أخذ جميع العوامل الخارجية والداخلية في عين الاعتبار، والاستفادة منها من أجل الدفع نحو تحصيل الحقوق.