الشوكة البوليفارية في حلق المتشددين
ليس جديداً على دول أمريكا اللاتينية تلك التي تقودها قوى اليسار، ومنها فنزويلا.أن تحدث محاولات اغتيال رؤسائها وقادتها بغية صُنع الفوضى، وتمكين القوى المعادية فيها كي تحتل هذي البلاد المحصّنة من نهج الليبرالية الغربي، لتجري مؤخراً محاولة جديدة تستهدف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
فنزويلا ومنذ عام 1999 مع وصول الرئيس الراحل هوغو تشافيز وتياره ونهجه السياسي استطاعت تدريجياً تحسين أوضاع الشعب الفنزويلي الذي كان نحو 50% منه يعيشُ دون خطّ الفقر في إحدى أغنى البلاد النفطية، والتي قُدر دخلها حينها بـ850 مليون دولار شهرياً، وينهض بهم.
فكانت أهدافه وممارساته قبيل وبعد تسلّمه السلطة تُنادي بالديمقراطية الشعبية والاستقلال الاقتصادي للبلاد، والتوزيع العادل للثروة، ووضع حدٍ للفساد السياسي، ومن شعاراته «القضاء على بيوت الصفيح»، تلك البيوت التي كان يقطنها جزءُ كبير من الشعب الفنزويلي نظراً لتدنّي أحوالهم الاقتصادية والمعيشية، ليتبنى أولاً مشروع إنشاء 200 ألف مسكن توزع مجاناً على المحتاجين، تلتها عدة مشاريع مشابهة، وصولاً لمشروع الإنشاء العام الذي أعلن عنه عام 2011 لتوفير 3 ملايين منزل للفنزويليين في نهاية عام 2019، والذي لا زال معمولاً به حتى اليوم بكل نجاح، وقد أعلن حوله الرئيس مادورو مؤخراً بأنه تم إنجاز مليون ونصف منزل من المشروع السابق..
وهذه فقط واحدة من عدّة نتائج أنجزتها السياسة التشافيزية، منها: توزيع الأراضي وتأميم شركات الكهرباء والهاتف، إضافة إلى ما سُمّي بـ«دبلوماسية النفط» التي وفّرت نفطاً رخيصاً للدول الفقيرة المجاورة، والتي يمضي بها الرئيس مادورو، رغماً عن حنق الأمريكيين، وأدواتهم المتجسدة بالتيارات والحكومات الليبرالية، داخل فنزويلا أو حولها، كحكومة كولومبيا التي تشبه حالتها اليوم حالة فنزويلا ما قبل الثورة البوليفارية.
محاولة اغتيال فاشلة، أم تهديد؟
حقيقةً لا يمكن لأحدٍ أن يجيب عن هذا السؤال بشكلٍ مُطلق، ولكن من جانب آخر فإن ما يهمنا هو رؤية الحدث سياسياً وبشكل مجرّد، بعيداً عن الخلط واللغط الإعلامي الذي يجتزئ الأمر ويحدّه بشخص الرئيس الفنزويلي فقط، فحين توفي تشافيز، أتى مادورو على النهج ذاته، وإن توفي مادورو سوف يأتي من يكمل الطريق.. إذ أن المُستهدف هو السياسة التشافيزية ككل، اليسار الفنزويلي، و«الرعب الاشتراكي» على أولئك الليبراليين ومن خلفهم، وخوفاً من تأثير هذه السياسات على الدول المجاورة، حيث إنه وعبر التجربة التاريخية: ما إن تشعل شرارة حركة تحرر وطنيّ في بلدٍ، حتى تبدأ كأحجار الدومينو تنتقل من دولة إلى آخر.
إن أحد أهداف الضغط والتهديد والوعيد وتبعاته على فنزويلا هو بمضمونه تهديد لشعوب البلدان المجاورة لها، بالإضافة إلى أطماع الأمريكيين في استثمار قوة عمل هذا الشعب ونهب موارده التي حُرم منها الغرب، ويا حبذا بالنسبة لهم لو يدخل الفنزويليون في حالة فوضى وحرب أهلية تفتح سوقاً لتجارة السلاح والاستغلال.
وفي هذا السياق تأتي محاولة الاغتيال الأخيرة بزمانها ومكانها كدفعةٍ لتوريط الجيش الفنزويلي بمحاولة انقلاب أخرى كسابقتها التي حدثت في فترة رئاسة تشافيز، بحامليها الفنزويليين ذَوي التوجه الليبرالي خوليو بورخيس والآخر خوان ريكيسينس، النائبين البرلمانيين والمعارضين الذين اتهمهما مادورو بالوقوف وراء عملية اغتياله، ومؤكداً أن المجموعة التي عملت على تنفيذ العملية قد تدربت في مدينة تشيناكوتا الكولومبية... إن المحاولة هي لاغتيال السياسة التشافيزية.
كيف لمادورو أن يتهم أمريكا ويثق بحسن نية ترامب!؟ التراجع..
رغم كل ما سبق وذكرناه، ورغم تورط الليبراليين الفنزويليين المدعومين من كولومبيا وأمريكا، وبتصريحات من الخارجية والرئاسة الفنزويلية التي تتهم الأخيرتين بالعملية الإرهابية، إلّا أن مادورو خرج بتصريحات يبدي فيها أمله في التعاون مع الولايات المتحدة بتسليمها المتورطين في العملية، وأشار مادورو أيضاً إلى أنه يثق بحسن نية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه لن يسمح بتدبير محاولات اغتيال القادة المدنيين والعسكريين في دول مثل: فنزويلا من أراضي الولايات المتحدة!... إنه التراجع الأمريكي، والانقسام الجاري ضمن إدارة المركز الرأسمالي ما بين متشددين وعقلانيين، الأمر الذي تدركه الحكومة الفنزويلية بالطبع، وبَنَت عليها تصريحاتها بأعلى دبلوماسية ضمن لحظة حرجة كتلك على بلادهم، الأمر الذي يدفع بهذا الحد أو ذاك إلى تعميق الانقسام أكثر على إثر محاولة الاغتيال وفضحها، وإضعاف وزن التيار المتشدد أمريكياً على حساب نقيضه العقلاني.
«تمثيلية من مادورو» لقمع معارضيه؟
كالعديد من محاولات الاغتيال أو الانقلابات التي جرت دولياً على بعض الحكومات أو القياديين يأتي بعض السياسيين بحنكتهم يزعقون: «تمثيلية»، ما يذكرنا بمحاولة الانقلاب التركية التي جرت قبل سنتين، وأيضاً كانت مدعومة أمريكياً، حيث خرج البعض يقول المفردة ذاتها، كجواب جاهز ومسبق على حدث كبير جرى، يُعنى به أعداؤهم بغاية تصغيرهم والتقاط ذريعة ليشنّوا هجوماً من خلالها.. إن لا مادورو ولا تشافيز بحاجة تمثيليات كهذه، فثلثا الشعب الفنزويلي على أقل تقدير يمشي على النهج والسياسة التشافيزية كخطّ سياسي يجمعهم، لتبقى تلك القلة الليبرالية تتماوت وتضمحل تدريجياً وطبيعياً دون الحاجة لأي مشهد سينمائي.
فنزويلا التشافيزية، مدرسة وبوصلة لاتينية
إن التوازن الدولي الجديد بتراجع الأمريكي، وصعود البريكس، وخصوصاً الصين وروسيا، الحلفاء التاريخيين لفنزويلا يجعلان منها قلعة في قلب أمريكا اللاتينية لتزداد قوّة مع مرور الوقت، ويجعلان من نموذج سياستها ونضالها، وبمجمل ما حققته طوال العقدين- الماضي والجاري- مدرسة للقوى اليسارية إقليمياً بجوارها ودولياً على العموم، للاستفادة من التجربة وتطويرها والبناء عليها بما يناسب كل دولة عن أخرى، وأن للشعوب اليوم فرصة تستطيع من خلالها أن تقرر لنفسها دون هيمنة أو وصاية دولية من أحد، ليكون بدل تشافيزية واحدة، عشرات أخرى.