«بريكس» والغيبوبة الغربية
انطلقت يوم الخميس 26 تموز القمّة العاشرة لمجموعة دول البريكس في مدينة جوهانسبرغ في جمهورية جنوب إفريقيا، واستمرت لمدة 3 أيام، حيث شارك فيها زعماء الدول الـ5 الأعضاء، بالإضافة إلى رؤساء دول أخرى تمت دعوتهم للمشاركة ضمن اجتماع موسّع سُمي «بريكس+»، وقد جرى خلال القمة بحث مختلف القضايا والملفات التي خلصت إلى نتائج أكثر إيجابية وعملية.
إذا كانت لقمّة هلسنكي- التي جمعت رئيسي روسيا والولايات المتحدة- سمةٌ محددة تتمثل في الاعتراف والإقرار الأمريكي بالتوازن الدولي الجديد الناشئ، فإن كُل قمّة تجمع دول البريكس تُمثل دفعة جديدة تحو تغيير فضاءات التوازن القديم وإحلال الجديدة، وإذا كانت وسائل الإعلام في زمن التوازن القديم تهرع عند كل اجتماع غربي، فإن اليوم، وبالمقارنة مع القمم السابقة، تحظى اجتماعات دول «بريكس» باهتمام يوازي وزنها الدولي من قبل الجميع: حكومات واقتصاديين وسياسيين وغيرهم، كنتيجة لوتيرة تصاعدهم في مختلف الجوانب، وفي غالبية الملفات الدولية، وليس من المستغرب أبداً أن تُلمح بعض الدول برغبتها للانضمام، لما تمثله هذه المجموعة من قوّة تدفع العالم نحو علاقات اقتصادية وسياسية مُختلفة تماماً عمّا كان سائداً قبلها، فها هي اليوم تركيا تدعو خجلاً بإضافة التاء في نهاية «البريكس».
قمّة القمم
في هذا التوقيت وفي هذه الظروف، عنوانٌ كهذا ليس بمبالغة حقيقةً، ولا انجرافاً، بل وبموضوعية مُطلقة: تحالف دول البريكس اليوم يُمثل بوصلة لكل التحالفات والدول الأخرى، في سياساتها وفي علاقاتها الاقتصادية، وبنهج مختلف عن الغرب، ومُستقل عنه اقتصادياً، سواء عبر نظام مالي جديد ينشأ أو بنك التنمية، خلافاً للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو مبادئ التعددية في التجارة الدولية خلافاً لمنطق الغرب القائم على الاحتكار والابتزاز... وسياسياً، عبر إطفاء بؤر التوتر حول العالم وتيسير عمليات الحلول السياسية أو تنفيذ القرارات الدولية الصادرة قديماً وحديثاً، عوضاً عن عرضها في قاعات الأمم المتحدة كمتحف وآثار.
القمة اقتصادياً
دعا الرئيس الصيني- في معرض حديثه أثناء الاجتماع- إلى التمسّك بمبادئ التعددية في التجارة الدولية، وأكد على ضرورة تحريرها، بعيداً عن سياسات الحمائية الاقتصادية التي يقوم بها الغرب مؤخراً وعلى رأسه واشنطن، مؤكداً أنه: «بوسعنا أن نشكل منظومة جديدة للعلاقات الدولية مبنية على الاحترام المتبادل والمساواة والتعاون متبادل المنفعة»، فيما أعلن الرئيس الروسي بوتين عن أمله بفتح مكتب لبنك بريكس للتنمية في روسيا، مشيراً في نقطة أخرى إلى أن التبادل التجاري بين روسيا والهند قد ازداد بنسبة 26% خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام. وأكّد راماسوفا رئيس جمهورية جنوب إفريقيا أنه «في المرحلة الحالية يجب تركيز الجهود على تحقيق أكبر نمو ممكن، والازدهار المشترك في ظروف الثورة الصناعية الرابعة»، مؤكداً أنه في حال غياب التنسيق قد تتعمق الفجوة بين مختلف الدول. فيما شدد رؤساء الدول الأعضاء مجتمعين في إعلان بريكس على أهمية اقتصاد عالمي مفتوح.
القمّة سياسياً
تضمن إعلان قمة البريكس المشترك دعوته للمجتمع الدولي إلى تشكيل تحالف واسع وحقيقي لمحاربة الإرهاب، كما شدد على ضرورة إطلاق مفاوضات دولية متعددة الأطراف، حول اتفاقية لمحاربة الإرهاب الكيميائي والبيولوجي، وعلى ضرورة مضاعفة الجهود لمحاربة الفساد وتبييض الأموال، والتوجه نحو وضع قواعد مشتركة بما يخص الأمن السيبراني. ووقع رئيسا روسيا وجنوب إفريقيا إعلاناً مشتركاً حول الشراكة الإستراتيجية بين البلدين.
القمّة سوريّاً
تبنّى إعلان القمة العاشرة لدول البريكس مجموعة من النقاط بما يخص عدة ملفات دولية، منها: ما يخصّ الأزمة السورية، حيث أكد رؤساء المجموعة على تمسكهم بالتسوية السياسية في سورية من خلال عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، بما يضمن سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية، وفقاً للقرار الدولي 2254 مع مراعاة نتائج مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي، أيّ: الدفع باتجاه بدء عمل اللجنة الدستورية، وأدانوا استخدام الأسلحة الكيميائية بغض النظر عمن يستخدمها وأهدافه، ودعوا للتحقيق المستقل والموضوعي بكل تلك الحوادث.
القمّة فلسطينياً
كما دعت دول «بريكس» إلى استئناف الجهود الدبلوماسية لتحقيق تسوية شاملة بما يخص القضية الفلسطينية، وتحقيق الأمن والسلام في الشرق الأوسط على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي. ولهذا الإعلان بعدٌ خاص في القضية الفلسطينية، بالتزامن مع التراجع الأمريكي الذي ينحو بالعدو الصهيوني يوماً بعد يوم إلى مواقع أكثر ضعفاً ووهناً، ما يعني: انسحاب واشنطن تدريجياً من هذا الملف، لتحل محلها القوى الصاعدة بسياساتها الجديدة التي تُهدد الكيان بسبب هذه الفضاءات السياسية الجديدة، التي تؤمن الظروف المناسبة والحقيقية لتُعبّر الشعوب عن مصالحها وتحققها.
«بريكس» في البيانات
تأسست مجموعة بريكس في عام 2006 متكئة على إمكانات مواجهة الهيمنة الاقتصادية الغربية، لتفتح بذلك عصراً جديداً للتعاون بين الأسواق الناشئة. وعلى مدار السنوات العشر الماضية، حقق التعاون بين دول بريكس إنجازات هامة وملموسة في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والمالية والتبادلات.
تفيد إحصاءات صندوق النقد الدولي: أنه خلال السنوات العشر الماضية، ارتفعت نسبة الاقتصاد الكلي لدول بريكس في الاقتصاد العالمي من 12% إلى 23%، وزاد نصيبها من التجارة الدولية من 11% إلى 16%، وتجاوزت إسهاماتها في نمو الاقتصاد العالمي 50%.
وفي هذا الصدد، ذكر سلجوق جولاك أوغلو مدير «المركز التركي لدراسات آسيا- الباسيفيك»، أنه خلال العقد الماضي، شهد اقتصاد دول بريكس نمواً متسارعاً، وأخذ اقتصادها الكلي يتسع بشكل مستمر، وصارت آليته للتعاون أكثر نضجاً، وأصبحت تشغل مكانة منظمة دولية رائدة في العالم، مضيفاً أن قمة شيامن التي تعقد في وقت تتزايد فيه عوامل عدم اليقين، وكذلك المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي، تعد بمثابة منصة هامة لمناقشة مشروع صيني للحوكمة العالمية.
الغرب في العناية المشددة
إن كُل ما سبق ذكره في الإعلان، وكل ما تعمل به هذه الدول الصاعدة مجتمعة، سواء في تحالفها بإطار «بريكس» أو منفردة بسياساتها الجديدة، يُعجل من تماوت الغرب بسياساته وعلاقاته الاقتصادية التي فرضها عنوةً طيلة العقود الماضية، وتُسبب بهزائم وخسائر تتراكم عليهم يوماً بعد يوم، ويُعجل أيضاً من تفكك تحالفاتهم ليبحثوا منفردين عن الخلاص الذي سوف يؤدي- في نهاية المطاف- إلى الرضوخ والتوجه شرقاً.