ذهب ليبيا الأسود
بعد أن شهدت الأزمة الليبية الشهر الماضي حراكأ سياسياً اتجاه الحل، عاد الصراع بين فرقاء الأزمة ليتصدر المشهد، ويأخذ منحىً جديداً محوره النفط الليبي والموانىء النفطية.
ديمة كتيلة
لم يمضِ حوالي الأسبوعين فقط على الاجتماع الذي عُقد في باريس يوم 29 أيار الماضي، والذي ضم جميع فرقاء الأزمة الليبية، وخلص إلى التوافق فيما بينها على المشاركة في عمل سياسي يمهد الطريق لإجراء انتخابات نهاية العام الحالي، حتى عاد الصراع العسكري ليتصدر واجهة الأخبار الواردة من ليبيا. صراع عنوانه الأساس هذه المرة هو السيطرة على الموانئ النفطية وعائداتها المالية.
معركة الهلال النفطي
الجبهة تم فتحها على محورين، الأول: في مدينة درنة حيث شن «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير خليفة حفتر، معركة ضد ما يسمى «مجلس شورى مجاهدي درنة»، الفصيل المسلح الذي يضم جماعات موالية لتنظيم «القاعدة»، انتهت بتحرير المدينة بالكامل. والثاني: وهو الأهم، في منطقة الهلال النفطي، حيث شن «الجيش الوطني»، هجوماً ضد قوات تابعة لإبراهيم الجضران، القائد السابق لما يسمى «حرس المنشآت النفطية فرع الوسطى»، التي سيطرت على موانئ تصدير النفط سابقاً، حيث حاولت هذه القوات السيطرة مجدداً على المنشآت النفطية في الهلال النفطي، وذلك بالتحالف مع ما يسمى «سرايا الدفاع عن بنغازي» التابعة لـ«القاعدة»، مما أدى إلى إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة»، وإيقاف عمليّات شحن النفط الخام من ميناءي رأس لانوف والسدرة.
خسائر نفطية فادحة
ورغم أن المعركة لم تدم طويلاً قبل أن يعلن «الجيش الوطني» استعادة الهلال النفطي، بعد السيطرة الكاملة على ميناءي السدرة ورأس لانوف النفطيين، إلّا أن ما حدث تسبب بخسائر فادحة، وترك أثراً كبيراً على المنشآت النفطية. فحسب شركة «رأس لانوف» لتخزين النفط والغاز في ليبيا، فإن الصهريج الرئيس المغذي لخزانات النفط انهار بالكامل، وتقدر الخسائر المادية حتى الآن بـ 80 مليون دولار.
انقضاء المعركة العسكرية بين قوات خليفة حفتر من جهة وقوات إبراهيم الجضران من جهة أخرى، نقل الصراع إلى مسألة السيطرة على الحقول والموانئ النفطية في منطقة الهلال النفطي بين حكومة «الوفاق الوطني» في طرابلس، و«الجيش الوطني» في الشرق الليبي، إذ أعلن الأخير بعد سيطرته عليها، وبأوامر من قائده خليفة حفتر، تسليمها إلى المؤسسة الوطنية التابعة للحكومة المؤقتة المنبثقة عن مجلس النواب، بمعنى آخر نقل التبعية من المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس إلى بنغازي.
وهو ما رفضه، مصطفى صنع الله، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنيّة للنفط في طرابلس بشدة، وأكد أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2362 كان واضحاً بإدانته «المحاولات غير القانونية لتصدير النفط من ليبيا، بما في ذلك النفط الخام والمنتجات النفطية المكررة، من قبل المؤسسات الموازية التي لا تعمل تحت سلطة حكومة الوفاق الوطني»، معتبراً ما جرى إضراراً باتفاق باريس والطريق إلى السلام.
ويبدو، بناءً على ما سبق ذكره، أن بوادر الحل التي ظهرت مؤخراً في باريس يجري العمل على تقويضها باستخدام ورقة النفط، وهو ما يدفعنا إلى طرح تساؤلات عدة: لمصلحة من تم تأجيج معركة الموانئ النفطية؟ وما هي منعكساتها على التوافق السياسي في باريس والانتخابات القادمة؟
انخفاض في الإنتاج وتوقف في التصدير
من المعروف أن النفط هو الثروة التي تمتلكها ليبيا، وأكبر مورد للبلاد، لذلك فإن حرمان حكومة «الوفاق الوطني» المعترف بها دولياً منه سيضعها في أزمة اقتصادية كبرى نتيجة توقف عائدات التصدير التي تقدر بـ 88% من الدخل القومي، من جهة أخرى فإن اعتراف «أوبك» بالمؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس سيجعل من الصعب على المؤسسة الموازية في بنغازي تصدير النفط بالطرق الشرعية.
وهو الموقف الرسمي الأوروبي الذي أعلنته المتحدثة الرسمية باسم الخارجية في الاتحاد الأوروبي مايا كوتشيانتيتش، في بيان صحفي: «الاتحاد الأوروبي وبقية المجتمع الدولي كما هو موضح في العديد من قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن النفط الليبي، عارضوا باستمرار أية محاولة لبيع أو شراء النفط الليبي خارج القنوات الرسمية التي تديرها المؤسسة الوطنية الليبية للنفط».
هذا يعني، أن نتائج معركة الموانئ النفطية الليبية بالملموس حتى الآن هي انخفاض إنتاج النفط الليبي، وتوقف تصديره. إذ قال مؤخراً مصدران في قطاع النفط الليبي: أنه جرى خفض الإنتاج إلى 315 ألف برميل يومياً، بعد أن كان الإنتاج يصل إلى أكثر من مليون برميل يومياً في الأشهر الأخيرة.
معركة النفط العالمية
ما جرى لا يمكن فصله عن التغيرات الجارية في أسواق النفط العالمية، والمحاولات الأمريكية الواضحة للتلاعب به، من خلال الضغط على إيران وفنزويلا، بما يؤدي إلى خفض إنتاجهما من النفط، هذا الأمر الذي دفع بأعضاء منظمة «أوبك بلاس» قبل أسبوع إلى اتخاذ قرار من شأنه زيادة محدودة في إنتاج النفط لا تتجاوز مليون برميل يومياً.
ورغم الزيادة المحدودة في إنتاج النفط التي اتفقت عليها أوبك، يجري الحديث الآن عن اتفاق سعودي أمريكي يقضي بزيادة في إنتاج السعودية للنفط تصل إلى حدود مليوني برميل يومياً، ما يُعتبر زيادة قياسية في تاريخ إنتاج النفط.
إيران التي تعارض زيادة الإنتاج، ترى في الاتفاق الأمريكي السعودي استهدافاً مباشراً لها، وتضيقاً اقتصادي عليها يتزامن مع ما تشهده من احتجاجات داخلية. أي: إن إيران ستكون مضطرة إلى خفض أسعارها نتيجة لزيادة المعروض من الإنتاج، وبالتالي إنخفاض في مواردها المالية.
قد تكون معركة النفط الليبي وما نجم عنها من انخفاض في الإنتاج وتوقف في التصدير ذريعة إضافية أرادتها بعض الأطراف الدولية للتلاعب بأسواق النفط العالمي، وقد تكون ورقة داخلية، تسعى إليها بعض أطراف الأزمة لتثبيت نفوذها على أهم المقدرات الليبية قبل الذهاب إلى الانتخابات المتفق عليها نهاية العام. لكن أياً تكن الذرائع وأياً تكن الأطراف المتورطة، يبقى الشعب الليبي هو المتضرر الأكبر مع استمرار الفوضى والصراعات، ويضعه رهناً لإرادة السياسيين ومصالح الدول الكبرى، لكن دروس التاريخ تثبت دوماً أن هذا لا يدوم طويلاً، وأن الشعب سيفرض إرادته في نهاية المطاف.