إرادة الشعوب على الطريقة الفلسطينية

إرادة الشعوب على الطريقة الفلسطينية

من غزة المحاصرة، تتألق الإرادة الشعبية بأبهى أشكالها، ويستمر الحراك ويتصاعد زخماً وإبداعاً، للأسبوع الثالث على التوالي، ضمن فعاليات «مسيرة العودة الكبرى»، لتحمل الجمعة الثالثة اسم «جمعة رفع العلم الفلسطيني، وحرق العلم الإسرائيلي».

 

في هذه الجمعة أيضاً، خرج آلاف الفلسطينيين، وأمام السياج الحدودي حرقوا علم الكيان الصهيوني ورفعوا العلم الفلسطيني، ونصبوا سارية له، ليرفرف العلم الفلسطيني على ارتفاع 25 متراً في مخيم العودة شرق جباليا. وتمكنوا من إزالة جزء من السياج الشائك شرقي القطاع رغم استنفار قوات العدو. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد أطلق الفلسطينيون أيضاً طائرات ورقية، حملت كتلاً نارية وأعلاماً فلسطينية، وأسقطوها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، في ما يسمى بـ«غلاف غزة»، لتحرق مساحات واسعة من الأحراش الموجودة هناك.
حراك مستمر ووقائع جديدة
حراك مسيرة العودة سيستمر حسب القائمين عليه، ليبلغ ذروته في ذكرى النكبة يوم 15 أيار، أي: أن الحركة الشعبية باستمرارها، وبهذا الإصرار، رغم عدوانية الاحتلال، لابد أن لها أن تفضي في نهاية الأمر إلى نتائج جديدة وهامة، وهي في الوقت ذاته نتاج لوقائع جديدة على صعيد الداخل الفلسطيني والظرف الدولي. وهنا يمكن تثبيت جملة من الحقائق.
يعكس الحراك الجاري حقيقة أن الشعب الفلسطيني قد ضاق ذرعاً بواقع الحركة السياسية الفلسطينية، بأحزابها وقياداتها وبرامجها وانقساماتها وارتباطاتها، وهو اليوم يفرض واقعاً جديداً بمفاهيم جديدة عن حدود الاشتباك مع العدو وأشكاله.
والمتابع للفيديوهات القادمة من غزة، يمكن أن يلحظ أن قيادات جديدة تنشأ من رحم الحركة الشعبية التي تضم جميع فئات الشعب الفلسطيني، بعيداً عن الاستقطابات جميعها، ومع استمرار الحراك فإن هذه العملية ستأخذ منحى أكثر عمقاً وتطوراً، وفي هذا الصدد يشير البيان الصادر عن «الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار»، أن الهيئة تشكّلت عقب اجتماع موسع ضم ممثلين عن القوى والفعاليات الشعبية ووجهاء الشعب الفلسطيني، وممثلين عن المرأة والشباب والمهنيين وأعضاء المجلس التشريعي، وممثلين عن مختلف الوزارات والأطياف السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
وفي هذا الوقت الذي يتعثر فيه ملف إنهاء الانقسام الفلسطيني، ويتم فيه إعاقة تنفيذ اتفاق المصالحة، الذي تم التوصل إليه مؤخراً برعاية مصرية، من قبل جميع الأطراف، تأتي مسيرة العودة لتعيد الالتفاف الوطني الفلسطيني حول قضية جامعة، ولتحرج جميع تلك القوى المعنية بإنهاء الانقسام. حيث كان واضحاً خلال فعاليات مسيرة العودة، الالتزام الكامل بالبعد الوطني، فلم تُرفع شعارات أو أعلام فصائلية، العلم الوحيد الذي تم رفعه هو العلم الفلسطيني، مما يؤكد أن إنهاء الانقسام هو أمر ممكن وضروري، عندما يخرج من جعبة الفصائل وحساباتها الضيقة.
خوف الكيان الصهيوني
على الجانب الآخر، وفيما يخص الكيان الصهيوني فإن جميع المؤشرات تدل على أن الكيان يشعر بقلق جدي من الحراك الفلسطيني الجاري، بالتزامن مع التغير الجاري على صعيد التوازنات والعلاقات الدولية، بدءاً من درجة الاستنفار العسكري على الحدود، مروراً بتصريحات مسؤولين كبار في الكيان وتهديدهم للمتظاهرين من الاقتراب من الحدود، وليس انتهاءً بصحافة العدو، التي أصبحت فعاليات مسيرة العودة شغلها الشاغل.
تعتبر بعض التحليلات في صحف العدو، أن مسيرة العودة نجحت في إعادة غزة إلى طاولة الاهتمام الدولي. ومع إمعان جيش الاحتلال في الأعمال العدوانية اتجاه المتظاهرين، ترى تلك التحليلات، أن الكيان يضع نفسه اليوم أكثر في المأزق أمام الرأي العام العالمي، مع إصرار الفلسطينيين على الاحتجاج السلمي.
تدعو بعض نخب الكيان اليوم إلى ضرورة وضع خطة استراتيجية، استباقاً لأية محاولة دولية لفرض الحلول عليها. فالكيان الصهيوني يعي اليوم، أن تغير موازين القوى الدولية يجري لغير مصلحته، مع تراجع الولايات المتحدة وانسحابها من المنطقة، وتراجع دورها في المؤسسات الدولية.
يضاف إلى ذلك، أن الكيان الصهيوني هو جزء من المركز الرأسمالي المأزوم، وما تواجهه دول المركز في الغرب من أزمات اقتصادية وانقسامات سياسية، سينعكس بطبيعة الحال على الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي بدأت تظهر مفاعيله اليوم، من خلال اتهامات الفساد التي طالت مسؤولين في الكيان، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية والسياسية.
استمرار الحراك وبداية نهاية الكيان
في ظل هذا المشهد تبرز ضرورة استمرار الحراك الشعبي الفلسطيني وتصعيده، وإذا كانت بعض النخب الفلسطينية تضع السؤال، حول جدوى هذا النوع من المقاومة الشعبية على طاولة البحث، فإن الأجدى، هو: التأكيد على عظمة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال بجميع أشكالها، ووضع دور القوى السياسية اليوم بالمقابل على طاولة البحث، والضغط على السلطة والفصائل الفلسطينية للقيام بدورها المطلوب.
حيث لا يمكن فصل الحراك على الأرض، والضغط على دولة العدو بشتى الوسائل، عن التحركات الدبلوماسية في المحافل الدولية، فمن خلال الضغط الشعبي يمكن إجبار العدو على التنازل، وهو ما يتطلب وجود قوى سياسية قادرة على ترجمة النضال الشعبي على الأرض إلى موقف سياسي، يدفع باتجاه تحصيل حقوق الفلسطينيين وحريتهم.
إن إزالة أجزاء من السياج الشائك على حدود غزة اليوم، إنما يعني إزالة كوابح الإمكانية والأمل بإزالة السياج كاملاً، وتحطيم الجدار الفاصل، وفك الحصار، وتغيير الحدود، والعودة...
فالشعب الفلسطيني زاخر بالإرادة والتجربة النضالية الطويلة، والعالم يتغير، وموازين القوى تتبدل، والأفق يتكشف واضحاً أمام الشعوب لتقول كلمتها، في ظل هذا كله أصبح من الممكن اليوم، وضع مسألة إمكانية استمرار الكيان الصهيوني بشكله الحالي، على الطاولة جديّاً.