الهلوسة الأمريكية بروسيا

الهلوسة الأمريكية بروسيا

فاز بوتين بفترة ولاية رئاسية جديدة تضمن له البقاء في منصبه حتى عام 2024، وأظهرت نتائج الانتخابات التي جرت في 18 آذار الجاري، حصوله على أكثر من 76% من الأصوات، ليبقى بذلك رئيساً لولاية رابعة.

 

تزامنت انتخابات الرئاسة الروسية مع حملة إعلامية واسعة شككت بنزاهة وديمقراطية الانتخابات، حتى قبل حصولها، لتكون جزءاً من حملة أوسع تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، بالشراكة مع حلفائها، بهدف شيطنة روسيا، وحشد الرأي العام ضدها، سواء من خلال الضغط على الحكومات للدخول في الخندق المعادي لروسيا، أو على صعيد تكوين مزاج شعبي معادٍ لها، فلماذا هذا الهجوم الأمريكي الشرس على روسيا في هذه المرحلة؟
التراجع...حقيقة ثابتة
لسنا هنا في صدد الدفاع عن روسيا، أو عن رئيسها فلاديمير بوتين، ولكن حقائق الأمور، ووقائع تغير توازنات القوى الدولية، تقول: أن الحملة الأمريكية ضد روسيا تحمل الكثير من التضليل والأكاذيب الأمريكية المعتادة، وبأدوات وسيناريوهات متنوعة، بعضها يصل إلى حد السخف والمباشرة، مثل: اتهام موسكو بقتل الجاسوس الروسي المنشق، سيرغي سكريبال، واستعمال مواد سامة على الأراضي البريطانية، أو من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وعلى الشركات الأوروبية المتعاملة معها، وصولاً إلى الضغط على الأوروبيين للتخلي عن الغاز الروسي، وشراء الغاز الأمريكي غير المنافس، بما يتناقض مع مصالحهم! وأدوات أخرى تسعى إلى تسعير الصراع في جبهات عدة وتستهدف روسيا بشكل غير مباشر، مثل: الأزمة الأوكرانية، أو مثل: الحرب التجارية التي بدأتها واشنطن، وتستهدف الصين بشكل مباشر وحليفها الروسي بشكل غير مباشر، وينسحب هذا السلوك الأمريكي بطبيعة الحال على التعامل مع المنافس الصيني، وإن كان أقل حدة ووضوحاً.
تتوسع وتتنوع دائرة الصراعات اليوم، ولكنها تتشابه بالمضمون، وتلتقي في السياق ذاته، تحت عنوان عريض، من المهم إعادة التأكيد عليه تكراراً ومراراً، رغم أنه لم يعد لأحد إنكاره، وهو التراجع الأمريكي المستمر، وصعود دول أخرى أهمها: روسيا والصين. ولكي لا تبقى مجرد فكرة عامة، كيف يمكن بالملموس تحديد سمات التقدم الروسي التي تخشاها واشنطن المتراجعة حد الجنون؟
«هوس» مبرر
يمكن القول: إن روسيا اليوم تحمل جميع مقومات التفوق مقارنة بالأمريكي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
آخرها وأوضحها كان توجيه الضربة القاضية للتفوق العسكري الأمريكي بالإعلان عن أنواع جديدة من الأسلحة الحديثة التي لا تجاريها الأسلحة الأمريكية.
يتكامل ذلك مع إمكانات روسيا الاقتصادية، فهي لا تمتلك فقط 40% من ثروات العالم الباطنية فقط، وتطمح إلى أن تصبح واحدة من أكبر خمس اقتصادات في العالم بحلول عام 2020، لكنها أيضاً تملك الطموح الكبير في كيفية استخدام مواردها، كمشروع «خط السيل الشمالي» لمد أوروبا بغازها عبر البحر، ودورها كذلك محوري في بناء النموذج الاقتصادي الدولي الجديد، بالشراكة مع الصين ودول أخرى، والقائم على التكامل وتطوير البنى التحتية، وتطوير الصناعات الحقيقة، وربط أوروبا بإفريقيا بآسيا، والتخلص من هيمنة الدولار، وهو أكثر ما يثير الجنون الأمريكي.
يضاف إلى ذلك كيفية التعامل الروسي مع أدوات الضغط والعقوبات الاقتصادية الأمريكية الأوروبية، فقد كانت الأداة الروسية لمواجهة العقوبات بالدرجة الأولى، هي من خلال زيادة حصة الدولة في مجمل نشاطات وقطاعات الاقتصاد الوطني، وبالتالي رفع درجة تحكمها فيه، وتخفيض درجة اعتماده وتبعيته للغرب، أي تقليص درجة هيمنة الغرب، وقدرته على التحكم في الاقتصاد من خلال العقوبات، لترتفع مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي من 38% عام 2006 إلى 70% في 2016.
أما سياسياً، فإن انحسار المشروع الأمريكي بنشر الفوضى حول العالم، بفعل مشروع السلم الروسي، وهنا يمكن التأكيد للمشككين: إنه مشروع سلم فعلاً، فالسلوك الروسي بالتعامل مع جميع ملفات الصراع حول العالم، كان مركّزاً في إطار الدفع بالمفاوضات والحلول السلمية، هذا بالإضافة إلى خسارة الولايات المتحدة لمواقعها المهيمنة منذ عقود في المؤسسات الدولية، وتحديداً في مجلس الأمن، وأيضاً نتيجة للدور الروسي والصيني الفاعل، مما يعني أن الدور الأمريكي التقليدي هو ليس فقط في حالة تراجع نتيجة لأزمته الخاصة اقتصادياً، بل أيضاً لأن روسيا تصعد، وتملأ الفراغ، الذي يخلفه التراجع الأمريكي.
انتخابات ديمقراطية؟
بالعودة إلى موضوع الانتخابات الرئاسية الروسية، لا يمكن التأكد فعلاً من مدى نزاهتها وديمقراطية، ولسنا هنا أيضاً في صدد البحث في هذه المسألة، ولكن «الديمقراطية» عندما ينطق بها الغرب، تصبح من غير معنى، هذا ما علمتنا به تجربة العراق ودول أخرى. لكن الواضح هنا أن هذه المسألة تأتي في إطار الحملة المسعورة لإدانة روسيا، وتأليب المزاج الشعبي عالمياً ضدها، وبغض النظر، يبدو أن سياسات الإدارة الحاكمة الروسية على جميع الأصعدة، جديرة بإعادة انتخابها، وهو الأمر المعني به بالدرجة الأولى الشعب الروسي. أما عالمياً فإن دولة تدعم الحلول السياسية، وإطفاء بؤر التوتر الأمريكية، وتطوير نموذج اقتصادي بديل، وإزاحة هيمنة الدولار، هي دولة من الطبيعي أن تسبب الهوس والجنون لأمريكا المصابة بالتراجع، وصاحبة مشروع الهيمنة و«الفوضى الخلاقة».
قد يخيل للبعض أن الضجيج الذي تثيره أمريكا حول العالم، هو دليل قوة، وهو بالضبط ما تحاول واشنطن الإيحاء به، إن المجالين الإعلامي والاستخباراتي، هما الساحتان المتبقيتان لواشنطن، لممارسة هواياتها المعتادة بالتأثير على الرأي العام وتضليل الحقائق، أما الوقائع فإنها تقول: إن أمريكا ليست كما كانت قبل، وأن أفولها قادم لا محالة، أما ما تبقى لها للقيام به في هذا المرحلة، فهو فقط تنظيم عملية التراجع وتحديد أولوياتها، وفي هذا الطور قد تتنوع وتتعدد السيناريوهات مع ارتفاع حدة الهوس والجنون الأمريكي.