باي باي تيلرسون... باي باي بومبيو

باي باي تيلرسون... باي باي بومبيو

تشير الإحصاءات المنشورة في وسائل الإعلام، عن حجم التغيرات التي حصلت في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأن 43% من هذه الإدارة تم تغييرها، «إقالة أو استقالة»، خلال عام واحد.

وهذه ظاهرة غير مسبوقة ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في دول العالم كلها، اللهم، إلا إذا استثنينا انقلابات دول العالم الثالث! وعلى كلٍ، ما يثير الانتباه أيضاً في هذا «الانقلاب الأمريكي» هو جانبه النوعي.
حيث شهدت الإدارة الأمريكية، على مدار نحو عام مغادرة أسماء بارزة، تقود مراكز حساسة، من بينها: مستشار الأمن القومي، مايكل فلين الذي استمر في منصبه 25 يوما فقط، وكذلك رينس بريبوس، كبير موظفي البيت الأبيض السابق، وستيفن كيفين بانون، كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاستراتيجية، والمتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، وشهدت إدارة الاتصالات في حكومة ترامب أكبر معدل لحركة دوران الموظفين خلال عام، حيث تعد المديرة الحالية لهذا القسم، هو هيكس، رابع شخص يتولى هذا المنصب في الفترة المذكورة.
توعز بعض القراءات المتعلقة بهذا الاضطراب في الإدارة الأمريكية، بكل ما تعنيه أمريكياً، ودولياً، إلى موضوع الكفاءة، أو إلى مزاجية الرئيس، وأطواره الغريبة، أو حساسيات شخصية، وكأن الظاهرة تتعلق بإدارة فريق لكرة القدم، أو إدارة مؤسسة للخضار.. في حين أن هذا التآكل المستمر في البيت البيضاوي، الذي طال وزير الخارجية ريكس تيلرسون، إنما يحمل العديد من الدلالات، والمعاني، التي تؤكد بما لا يقبل الشك، حجم الانقسام الأمريكي، لاسيما، وأن أغلب هذه التغيرات سبقتها إشاعات، ثم نفي رسمي، لتعود الوقائع وتؤكدها بعد أيام، وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أن تآكل أية بنية من الداخل، هو دلالة على تأزمها، وتراجعها، وهو سمة ملازمة لمن يتقهقر، فإن هذه الحقيقة تفنّد بالملموس، ذاك التسطيح الدارج الذي يزعم، أن الولايات المتحدة لم تحسم خياراتها في هذه القضية أو تلك، وتظهر حقيقة أخرى عارية، وهي: أن الولايات المتحدة ليست قادرة على حسم خياراتها أصلاً، لا لعدم كفاءة، ولا لنقص في قاعدة البيانات لدى صانعي القرار الأمريكي، بل، لأنه لم يعد بالإمكان التحكم بحجم التناقضات داخل هذه البنية المأزومة، لتتمظهر بهذا الشكل الدراماتيكي.. فالحزب «الديمقراطي» يحمّل المسؤولية للحزب «الجمهوري»، والإعلام يحمل المسؤولية للرئيس، والرئيس يحمل المسؤولية للإدارات السابقة، ...والحقيقة أن ذلك التجاذب كله ينطوي على شيء من الصحة، وأن الكل يتحمل المسؤولية، لأن الكل من البنية المأزومة نفسها، ومن الطبيعي أن يبحث الكل، عمن يحمله مسؤولية فشله، وأن الكل ينقلب على البنية العاجزة كل بطريقته، ومن موقعه.
ينشغل بعض المتابعين، في هذا السياق بأسئلة موضوعية تطرح نفسها، وهي: على ماذا يجري الصراع؟ وأية خيارات تلك التي تتقدم؟ وأيها تتراجع؟ وبالتالي تأثير ذلك على الوضع الدولي؟
بعيداً عن الإجابات السريعة، على مثل هذا السؤال الشائك، فإن المؤكد هو: أن البنية من ألفها إلى يائها في مأزقٍ، وأنها في مرحلة انتقالية ما بين مرحلة الاستفراد بالقرار، إلى مرحلة قبول شركاء، أي قبول التراجع من عدمه، فعدم القبول لم يعد ممكناً، والقبول سيفتح أبواب الجحيم، لأنه سيحرك دومينو تناقضات جديدة، داخل الولايات المتحدة وبينها وبين حلفائها، لا يعرف جورج واشنطن نفسه أين ستنتهي.
أغلب الظن، أن للصراع الجاري إحداثيات عديدة، بين قوى رأس المال المالي المتغول من جهة، وبين الملاك من جهة أخرى، وحول رفض التكيف مع ميزان القوى الدولي الجديد، وقبوله، وحول التسارع في التراجع، ومحاولات إبطائه على حساب الآخرين، وحول القطاعات الاقتصادية، أو الدول، التي ستكون كبش فداء هذا التراجع الاضطراري.
قبل أن يتنطع بعض الفقهاء المسكونين بالهزيمة، ويزعم بأننا نبالغ في التفاؤل، بمثل هذا العرض، نقرّ سلفاً، بأن ثمن التراجع نفسه غير قليل، وأن البشرية تدفع ثمنه الآن، وأن قوى الحرب ستستميت في «الدفاع» عن مواقعها، ولكنها تتراجع بكل تأكيد، والتراجع مستمر بما لا يقبل الشك، وأن الولايات المتحدة هي أكبر الخاسرين، سواء كان بومبيو أو تيلرسون وزيراً للخارجية الأمريكية، لأن التراجع بالنسبة للحالة الأمريكية، يعني في الأحوال كلها: اتساع الأفق أمام القوى الحية من البشرية، وخصوصاً في مناطق التوتر، لتقول كلمتها، وتطرح خياراتها البديلة، و«الشاطر» مِنْ هؤلاء مَنْ يستطيع الخروج بأقل الخسائر، وأول علامات الشطارة الكف عن تعمية الناس، ودفعهم إلى مآزق، وتوريطهم من جديد، استناداً إلى تحليلات تعود إلى زمن آخر، والإيحاء بأن الولايات المتحدة ما زالت تستطيع أن تأمر وتنهي، استناداً إلى الاستعراض الإعلامي... وبالمناسبة ترامب بانتظار اللقاء مع رئيس كوريا الشمالية جونغ أون!