كوريا كغيرها... إلى الحلّ سِر!
في عالم اليوم، لم تعد تجري الأمور كما تشتهي واشنطن، وكما اعتادت سابقاً، فها هي صفعة أخرى تتلقاها على صعيد العلاقات الدولية، مع تطور الأحداث اتجاه طرد سفينتها بعيداً عن الكوريتين، وبأيدي الكوريين أنفسهم.
أخيراً، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيزور كوريا الديمقراطية، وسيلتقي بالرئيس الكوري، كيم جونغ أون، قبل نهاية شهر أيار المقبل، وذلك بعد مسلسل طويل من التهديد والوعيد الأمريكي، فهل انصاعت كوريا الشمالية حقاً للمطالب الأمريكية، كما تدعي بعض التحليلات وتروج له وسائل الإعلام؟ أم أن واشنطن هي من رضخت للأمر الواقع؟
مسبب انقسام الكوريتين
الأول يتراجع
ترتبط مؤشرات الانفراج الحاصلة اليوم في الأزمة الكورية بالتغيرات الجارية على صعيد التوازنات الدولية. فجذور الأزمة تمتد إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما عملت الإمبريالية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، على زجّ كوريا، كغيرها من الدول، في حرب داخلية طاحنة، تبعها تقسيم شبه الجزيرة الكورية في منتصف الخمسينيات إلى دولتين متصارعتين شمالية وجنوبية، لتستمر الخلافات، ويتجذر الانقسام أكثر فأكثر تحت ظلال التوازن الدولي السابق، القائم على الهيمنة الأمريكية المنفردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث وجدت بيونغ يانغ نفسها في مواجهة تهديد مباشر من الإمبريالية الأمريكية، مما دفعها إلى ما يشبه «العزلة» والتركيز على بناء قدرات عسكرية قادرة على رفع مقومات الردع المفقود.
ولكن مع التغيّر في موازين القوى الدولية اليوم، والذي من ضمنه تراجع الولايات المتحدة المتسارع، بدأت تنشأ فضاءات سياسية جديدة في مختلف دول العالم، دافعة العديد من القضايا العالقة نحو منحىً آخر، وفي هذا السياق تعبّر الكوريتان هذه المرة، عن إحدى نتائج ملامح الفضاء الجديد بجانبه العملي، المتمثّل بالتفاهمات، والحلّ السلمي للخلافات.
خطوة إلى الأمام
لقد جرى مؤخراً وتحديداً في حفل اختتام دورة الألعاب الأولمبية، في بيونغ تشانغ بكوريا الجنوبية، يوم الأحد 25 شباط، تقارب هام تمثّل بإرسال بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية، وفداً دبلوماسياً ليتواصل بشكل رسمي ومباشر لأول مرة مع نظرائه في سيئول، عاصمة كوريا الجنوبية، حيث قدّموا لهم دعوة للذهاب إلى الشمال، بمحاولة لدفع الأمور نحو تشكيل نواة عمل هدفها الحوار، الأمر الذي وَجد بالمقابل ترحيباً من الطرف الجنوبي، مما شكّل تطوراً جديداً، حيث تختلف هذه الدبلوماسية بالتعاطي بين الجانبين على ما اعتدناه من ظروف تحيط بتاريخ الأزمة في شبه الجزيرة الكورية وأدوات إدارتها.
ولكن ما لبثت الأمور تأخذ ذلك المنحى الإيجابي، حتى بدأ الأمريكي بالعمل مسرعاً على ثنائية الضغط والاستفزاز الممارسة على الكوريتين، لتأخذ الشمالية نصيبها من حزمة عقوبات جديدة، باعتبارها الأداة الأمريكية المعتادة والمتبقية، للاستفزاز وتأجيج التوتير، ولكنها لم تثمر في نهاية المطاف، وأتت بنتائج عكس المرجوة منها، فبعد بضعة أيام طرحت كوريا الجنوبية نفسها كوسيط بين بيونغ يانغ وواشنطن، لأول مرة أيضاً، وقدمت مبادرة لحوار بين كوريا الديمقراطية والولايات المتحدة، والذي تم الاتفاق عليه، بتأكيد من وزراء خارجية البلدين، قريباً.
مصلحة الكوريتين واحدة
تجدر الإشارة إلى أنه في حقيقة الأمر لا تشكل كوريا الديمقراطية، باعتبارها واحدة من الدول الطرفية، تهديداً مباشراً لواشنطن، مركز المركز الرأسمالي، بأي شكل من الأشكال، حيث أكدت بيونغ يانغ بشكل متكرر أن هدف التجارب الصاروخية التي تجريها، والتي تشير التقديرات العسكرية إلى أنها تحتاج سنواتٍ عدة قبل أن تتحول إلى «تهديدٍ نووي جدي»، هو تحصين نفسها ضد التدخلات السافرة، داعية في مناسباتٍ عدة إلى فتح أقنية الحوار بشرط ضمان وضع حدٍ كامل لهذه التدخلات.
ولكن «التهديد» النووي لكوريا الديمقراطية ما هو إلّا ذريعة يستخدمها الأمريكيون لخلق التوترات في شبه الجزيرة الكورية، وتبرير تواجدهم العسكري هناك، والمقصود بها استهداف الصين أولاً، الدولة الصاعدة والمنافسة.
ولكن اليوم، ومع سرعة وتوسع التغييرات الاقتصادية التي بدأت شرقاً، والتي تناقض مصلحة الغرب وسياساته الاقتصادية، والعمل الجاري على كسر هيمنة الدولار بشكل أساس، وبالتوازي مع تراجع واشنطن قسراً عن مختلف الملفات السياسية حول العالم، وخساراتها المتتالية. تقف شبه الجزيرة الكورية في ظل ظروف موضوعية تدفع باتجاه ضرورة التعاطي بطريقة مغايرة مع أزمة البلدين، بما يضمن مصلحتيهما في الاستقرار الداخلي والمحيط على مختلف الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
خطوة للخلف
إن واشنطن مدركة لتراجعها، ومدركة للتغيرات السياسية الاقتصادية الكبرى التي تقودها دول الشرق الصاعدة، والتي هي أعجز اليوم عن التحكم بها، الأمر الذي يدفعها للتصرف على مختلف الملفات وفق سياسة الخروج بأقل الخسائر الممكنة... وما موافقتها على قبول الحوار مع بيونغ يانغ إلا رضوخ للأمر الواقع ومحاولة لإرسال إشارات تُراضي بها خصومها في الشرق، الصين وروسيا.
فالأمور تجري في شبه الجزيرة الكورية نحو تثبيت نمط معين يضمن خروج واشنطن من المنطقة، وهو ما يعطي الضمانات لكوريا الديمقراطية للمضي قدماً بالحل والحوار والتحركات الدبلوماسية الجارية.
القوى الصاعدة وإطفاء الحرائق
أخيراً، ليس لأحد إمكانية إنكار دور روسيا والصين في هذا التقارب، فمصلحتهم اليوم ترتكز على سياسة إخماد الأزمات، وإطفاء الحرائق حول العالم، ومن ضمنها أزمة الكوريتين، خاصة وأنهم على الحدود مع الصين، ففكرة حوار الكوريتين بهذا الشكل انطلقت أولاً من تصريح روسيّ في منتصف العام الماضي، بالتوازي مع التصريحات والمواقف الصينية المؤيدة والداعمة لها، إضافة إلى ما سبقها من مواقف وتصريحات سياسية، ومواقف وقرارات في مجلس الأمن قد أفضت بالمحصلة إلى فتح باب للحلّ الذي نشاهده اليوم.
إن ما يجري ليس إلّا مقدمة صغيرة للحل النهائي
الحل الحقيقي، ذاك الذي يُعنى به شعب شبه الجزيرة الكورية بالدرجة الأولى، والغائب حتى الآن عن دوره الفعّلي، لم يبدأ بعد، وإن هذه المقدمات تشكل مفاتيح وأدوات سيلتقطها في نهاية المطاف، ليبدأ بشق طريقه وفرض نفسه، ذلك بدفع الأمور جدياً ليس وفقاً لمصلحة حكوماتهم المحلية، أو الحكومات الإقليمية والدولية سواء الصديقة منها أو المعادية، وإنما لمصلحته التي تُفضي في نهاية المطاف - وإن بدى الأمر مستحيلاً الآن- إلى تغييرات كُلية وإعادة الوحدة بين البلدين وإن طال ذلك قليلاً.