تَسقُط الأجساد وتنتصر الأفكار!
«لا تُحمل الثورة على الشفاه ليثرثر عنها!! بل في القلوب من أجل الشهادة من أجلها)
(تشي غيفارا)
ثلاثة أسابيع ونيف من الرصد والتعقب والمطاردة والاقتحامات، نفذتها قوات العدو المحتل وأجهزة استخباراته وعملائه داخل الضفة الفلسطينية المحتلة، بحثاً عن الفدائي المقاتل «أحمد نصر جرار» المتهم بأنه مسؤول الخلية الفدائية التي قامت بإعدام الحاخام المستعمر «رزائيل شفاح» في ريف مدينة نابلس يوم 9 / 1/ 2018. وجاء انسحاب المجموعة من مكان تنفيذ العملية الفدائية، التي تبعد أكثر من 50 كم إلى منطقة التخفي، والاستشهاد، رغم كاميرات المراقبة وعيون المخبرين الخونة وأجهزة التنصت على كل الهواتف، ليؤكد على إنجاز كبير حققه المنفذون في استطلاع الأماكن التي تحركوا ضمنها، مع معرفة دقيقة بطبوغرافيا المنطقة. ورغم كل المحاولات العسكرية والاستخباراتية التي شملت مدينة جنين وريفها في منطقة «وادي برقين» للقبض على قائد المجموعة، إلاّ أن قوات العدو وأجهزته الأمنية، المدعومة بمعلومات وفرتها لهم أجهزة السلطة من خلال «التنسيق الأمني»_ باعتراف العدو وقادة التنسيق المدنس في السلطة_ كانت تحصد الهواء، بل أن عدداً من جنود القوات المهاجمة سقط جريحاً برصاص أحد أبطال المجموعة «أحمد اسماعيل جرار» الذي استشهد وهو يغطي انسحاب ابن عمه «أحمد جرار».
أحمد النصر امتداد لنهج متجذر
في تجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة، على مدى سنوات الصراع المستمرة مع الغزاة المستعمرين، برزت أسماء كثيرة في مسار العمليات الفردية والمواجهات الواسعة. وفي العقود الأخيرة، يسطع اسم محمد الأسود «جيفارا غزة» قائد الجبهة الشعبية في قطاع غزة، الذي استشهد يوم 9 آذار/ مارس 1973 بعد أن عجز جيش الغزاة المحتلين لما يقارب الثلاث سنوات من البحث والمطاردة من اغتياله أو اعتقاله. وفي مخيم جنين والضفة الفلسطينية المحتلة، برز اسم «محمود طوالبة» قائد سرايا القدس (حركة الجهاد الإسلامي) في المخيم الباسل، والذي استشهد يوم 7 نيسان/ إبريل 2002 بعد أن قاد ورفاقه مواجهات أسطورية مع قوات العدو المحتل داخل المخيم. سنوات طويلة، أمضاها «الطوالبة»، ملاحقاً ومطلوباً لسلطة الحكم الإداري الذاتي، والعدو الصهيوني، لكنه استطاع الإفلات من المطاردة الصهيونية، والهروب من سجون السلطة، إلى أن قاد مع مناضلين آخرين معركة المخيم في وجه قوات الغزاة الصهاينة، التي سقط لها العشرات بين قتيل وجريح. وفي العقد الأخير، تعرفنا على أسماء الشهداء: محمد رباح عاصي ومعتز وشحة ومحمد الفقيه ونشأت ملحم وباسل الأعرج، في سردية الملاحقة والمطاردة والتخفي والاشتباك مع قوات المحتلين حتى الطلقة الأخيرة ومن ثم، الاستشهاد.
محاولات كَيْ الوعي الوطني
جاء استشهاد أحمد بعد شهرين على إعلان «ترامب» في 6 / 12 / 2017 أن مدينة القدس المحتلة هي العاصمة الأبدية لكيان العدو الاستعماري، في خضم حراك شعبي يعم الأراضي المحتلة في الضفة والقدس، وفي قطاع غزة المحاصر، رفضاً للإعلان المشؤوم وللوجود الإحتلالي الفاشي. لكن اللافت في ما ترتب على نجاح العملية الفدائية، كان سرعة الوصول لمعرفة اسم قائد الخلية الفدائية، كما ظهر من خلال حجم المعلومات التي توفرت لأجهزة العدو الأمنية، من خلال كاميرات المراقبة المثبتة في أكثر من شارع، وعلى مداخل معظم الأبنية، وما قدمته سلطة التنسيق الأمني من تقارير عن متابعتها للفدائي أحمد، من خلال رصد كل من يعرفه: الأهل والأصدقاء. وإذا كان لأي محلل وباحث في تتبع سيرة أبرز المناضلين الذي شكلوا للمحتلين، صداعاً دائماً ورعباً مقيماً، على مرّ سنوات البحث والملاحقة والمطاردة، التي امتدت لسنوات أو أشهر، فإن ما يجب التوقف عنده بتجربة أحمد النصر هو: قصر المدة الزمنية ما بين تنفيذ العملية ويوم الاستشهاد. وإذا قارنا بهذه العجالة تجربة ملاحقة واختفاء «المثقف المشتبك» الشهيد «باسل الأعرج» الذي استشهد قبل أحمد النصر بأحد عشر شهراً (6 / 3 / 2017) التي امتدت لستة أشهر بعد خروجه وخمسة من رفاقه من معتقل السلطة. اختفى باسل تلك الأشهر محمياً بحذره الشديد وحركته المحدودة، وشبكة الأمان الضيقة التي أحاطت به. أما أحمد فلم يتمكن من عبور الشهر الأول للملاحقة. إن محاولات «كَيْ الوعي الوطني»، والتخريب النفسي الذي مارسته السلطة على كافة الصعد: السياسية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، مدعوماً بالدور التخريبي «الناعم» للمنظمات غير الحكومية، المعروفة بمنظمات «الإن جي أوز»، والمترافق مع انحسار واضح لدور القوى السياسية والمجتمعية في نشر وتأصيل ثقافة المقاومة، التي تقوم بتحصين الفرد والمجتمع في مواجة «الردة»، قد ظهرت بعض نتائجه من خلال الحفاظ على «أمن الأنا/ الذات».
الفرد والمجتمع في مواجهة الغزاة المحتلين
أعاد إعلان الرئيس الأمريكي المشؤوم، الهبة الشعبية/ انتفاضة شباب القدس، في انطلاقتها المستمرة منذ تشرين أول/ اكتوبر 2015 إلى تحريك موجة جديدة من المواجهات مع قوات العدو وحواجزه، في العديد من نقاط الاشتباك . في تقرير نشره موقع الانتفاضة، عن حصيلة شهر كانون الثاني/ يناير 2018، تم رصد 30 عملية فدائية توزعت ما بين عملية طعن واحدة، وعملية دهس، و5 عمليات إطلاق نار، إضافة إلى 16عملية رشق حجارة، وتفجير 7 عبوات ناسفة، و46 حادثة إلقاء زجاجات حارقة وأكواع متفجرة، في أكثر 426 نقطة مواجهة مع الاحتلال الصهيوني، أسفرت عن ارتقاء 9 شهداء، وإصابة 203 فلسطينياً.
وفي إحصائية جديدة صادرة عن الموقع، عن حصيلة الأسبوع الأول من شهر شباط/ فبراير 2018، نُفذت7 عمليات فدائية أدت إلى مقتل صهيوني وإصابة 4 صهاينة بجراح مختلفة، في أنحاء متفرقة من الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وارتقاء 4 شهداء من الضفة الغربية المحتلة كما أصيب 197 مواطناً بالرصاص الحي والمطاطي، إضافة إلى إصابة العشرات بالاختناق بالغاز والاعتداء بالضرب، خلال المواجهات التي اندلعت في 155 نقطة مواجهة.
كان ضرورياً استعراض تلك الإحصائيات، من أجل الرد على كل دعاة الاستسلام وتقديم التنازلات، وللتأكيد على أن إرادة المقاومة ومواجهة المستعمرين المحتلين، متأصلة ومتجذرة داخل المجتمع. وقد جاء إعلان ترامب ليصب الزيت على الجمر الموجود تحت الرماد، ليعيد الدفع بموجة جديدة من النضال الفلسطيني، من أجل دحر الاحتلال وكنس وجوده: عسكر ومستعمرات ومؤسسات ذيلية تابعة، عبر مشاركة أكبر كتلة شعبية في الشوارع والميادين، وفي مواجهة الحواجز، للوصول إلى انتفاضة جماهيرية شاملة، تنتقل عبر برنامج وطني وكفاحي، من مرحلة إلى مرحلة للوصول لعصيان مدني شامل، يضغط على الاحتلال ويجبره على الانسحاب بدون قيد أو شرط . وقد شكلت انتفاضة القدس «معركة البوابات على مداخل المسجد الأقصى» في شهر تموز/ يوليو 2017 التي خاضها الشعب الفلسطيني بقيادة شعبية ميدانية، نقطة مضيئة في المسيرة الكفاحية الوطنية، إذ قدمت دروساً لمن يريد الاستفادة منها في معارك التحرر من الاحتلال، لأن ماشهدته شوارع القدس وساحاتها في تلك الأيام المجيدة يصلح لأن يكون «بروفه» للمشهد الكفاحي القادم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الحساب المفتوح
عند إعلان نبأ استشهاد أحمد نصر جرار، رقص المستعمرون فرحاً على إنجاز المهمة: جيش وأجهزة أمن الكيان مستنفرة منذ شهر تقريباً لملاحقة فدائي!، يالعارهم. لكن الوزير المجرم «ليبرمان» انبرى قائلاً «أُغلق الحساب مع من كان يلعب في الوقت الضائع». لكنه وحكومته يعلمان أن الحساب مفتوح دائماً طالما أنهم يدنسون أرض فلسطين، كما أكد لهم الفدائي المُطارد «عبد الكريم عاصي» بقتله لحاخام مستعمرة ستعمرة «أرئيل» بعدة طعنات قرب سلفيت، قبل أن يستشهد أحمد النصر، بساعات.
منذ مائة عام ونيف، والحساب مفتوح. فالشعب العربي الفلسطيني يواجه موجات الغزاة الجدد من «اليهود الصهاينة» ببسالة وبطولة نادرتين، على الرغم من اختلاف أساليب المواجهة وطبيعتها وساحاتها. لكن اللافت، أن قدرة الشعب الكفاحية ومخزونه لاينضبان، خاصة، وأن الصراع، واضح وغير ملتبس، إلاّ لدى بعض المتوهمين بـ«السلام» «مع الغزاة المحتلين، الذين يشكلون داخل الشعب الفلسطيني «حصان طروادة». إن أي تكرار للحديث عن البرنامج الكفاحي للحركة الوطنية الفلسطينية، لا يعدو في هذه المرحلة سوى إعادة إنتاج لكلام متكرر_ حتى لا نقول ثرثرة_ لواقع لا تصلح قراءته، إلاّ بوحدة الشعب حول برنامج واحد ومُوَحدٍ، عنوانه :المقاومة وإدامة الاشتباك مع العدو. وهذا ما ترجمه على أرض الوطن المحتل آلاف الشهداء الأحياء في ضمير الشعب الذين سقطوا مؤخراً في ساحات المجد، بالاشتباك المباشر، من أمثال: أحمد نصر جرار، وباسل الأعرج، ومعتز وشحة، ونشأت ملحم، وآخرين.