العراق: إيقاف الحرب والتوتر فوراً
بتلك السهولة، وهو ما كانت المؤشرات جميعها التي رافقت عملية الاستفتاء تدل عليه، من المعارضات الدولية والإقليمية والداخلية، وتهديدات دول الجوار، أي: تركيا وإيران، وكذلك الحكومة المركزية في بغداد، التي تراوحت بين التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، وفرض حصار على الإقليم، وصولاً إلى التلويح بالتدخل العسكري، بالإضافة إلى معارضة قوى سياسية داخل الإقليم نفسه لإجراء الاستفتاء وإعلان الاستقلال...
وائل سعد
للشعب الكردي الحق الذي لا يمكن إنكاره في تقرير المصير، لكن إصرار حكومة كردستان على إجراء الاستفتاء والمضي بإجراءات الانفصال في الوقت الحالي، رغم التهديدات المذكورة جميعها، إنما يعني أن حكومة الإقليم أمعنت في خيار لن يصب في مصلحة شعبها وضوحاً.
فمثل هذا الخيار حالياً له إشكالياته المرتبطة بموازين القوى الدولية والإقليمية، وبالوضع العراقي عموماً والمتراجع على الأصعدة جميعها، وبأزمة القوى السياسية العراقية ومستوى التوتر فيما بينها، الذي بدأ مع إعلان الدستور العراقي المعروف بـ«بريمر». وبالتالي، فإن الذهاب نحو الانفصال إنما يعني نقل التوتر إلى مستويات أعلى، وتحوله إلى توتر عسكري كما حدث مؤخراً، وإعطاء المبررات لدول الجوار للتحرك عسكرياً بحجة الحفاظ على أمن حدودها، كما فعلت تركيا.
لطالما جاهر البرزاني وتحالفه السياسي بنوايا الاستقلال وتشكيل دولة كردية مستقلة، طوال السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي الذي حمل تغيرات شاملة في البنية السياسية العراقية، لكن توازنات القوى داخلياً والوضع الإقليمي المحيط لم يسمح يوماً بتمرير خيار الانفصال كأمر واقع، حتى بداية المعركة ضد تنظيم «داعش» المعروفة بـ«قادمون يا نينوى»...
حسابات سياسية ضيقة
بعد انطلاق عملية «قادمون يا نينوى»، تغيرت تموضعات القوى العسكرية والسياسية في محيط محافظة الأنبار، وتحديداً في المناطق التي كان يصطلح بأنها مناطق نزاع بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد، حينها ازداد وزن قوات «البيمشركة»، التي ساهمت في العمليات ضد تنظيم «داعش» من الناحية الشمالية لمحافظة الأنبار، ضمن وضع مؤقت تقتضيه ضرورات المعركة، لكن حكومة الاقليم وعلى أبواب إغلاق ملف تنظيم «داعش»، عسكرياً، حاولت الاستثمار سياسياً بالوضع المحدث، عن طريق إعلان الاستفتاء، رغم معارضة الحكومة المركزية له، ومن ثم التهديد بإعلان الاستقلال من جانب واحد.
ونتيجة رفض الحكومة المركزية، ودول الجوار العراقي، كانت النتيجة إعلان حكومة البرزاني تهدئة الأوضاع عسكرياً في كركوك التي شهدت احتكاكات بين قوات الشرطة الاتحادية، و«البيشمركة»، ومن ثم طلب الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع بغداد، والذي قوبل بالرفض من جانب الحكومة المركزية.
تغطية المسألة الجوهرية
هنا لا تبدو الحكومة المركزية أفضل حالاً في تعاطيها مع الأزمة، كونها ترفض الحوار مع حكومة البارزاني، وإن كان ظاهراً أنها محقة، بمطلبها إلغاء نتائج الاستفتاء، والتأكيد المستمر على وحدة الأراضي العراقية، لكن في العمق تستفيد البنية السياسية المهترئة في العراق بمجملها من بوابة الأزمة الحالية، التي تغطي على إمكانات ظهور تحركات سياسية خارج الأطر المعتادة في «العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي»، وبالعودة إلى ما قبل معركة «قادمون يا نينوى» بأسابيع، نستذكر خروج آلاف العراقيين إلى الشوارع رفضاً لمستوى الفساد، وتدني الأوضاع المعيشية في كامل البلاد، لكن المعركة ضد الإرهاب أجّلت في حينها استمرار وتصاعد ذاك الحراك، طالما أن ظاهرة الإرهاب كانت تهدد وجود العراق نفسه، وهي بالقضية الحق.
اليوم، بعد قرب انتهاء المعركة ضد الإرهاب، يتصدر الصراع القومي المشهد السياسي العراقي، وبالتالي تأجيل مفترض لبحث القضايا الملحة التي تهم الشعب العراقي، وبالتالي أيضاً فاللائمة بحسب النتائج، تقع على طرفي الصراع السياسي طالما أنها مستمرة وقابلة للتصعيد، وطالما أن الطرفين السياسيين في أربيل وبغداد مصران على مواقفهما إزاء المسألة القومية في العراق.
هنا يمكن ملاحظة واحدة من حاجات القوى السياسية العراقية في بحثها عن متنفسٍ، مما يمكن أن يأتي به الشارع العراقي في المرحلة المقبلة، والمقصود هنا عرقلة النشاط السياسي المستحق كالانتخابات المحلية في إقليم كردستان على سبيل المثال، واحتمالية تمديد الولاية لحكومة البارزاني في أربيل، كما لحكومة العبادي في بغداد، وتأجيل الانتخابات التشريعية المقبلة.
طريق يعرفه الجميع
بناء على ما سبق، يمكن القول: إن استفتاء كردستان وما نتج عنه حتى الآن يشير إلى أن المهمة الأولى_ للقوى السياسية العراقية كافة_ اليوم هي: إيقاف الحرب غير المعلنة، والجلوس إلى طاولة التفاوض، ونبذ أشكال الشحن القومي أو الطائفي كلها من جميع الأطراف. حيث أثبتت مجريات الأحداث، أنه لا يوجد منتصر في أي عمل عسكري، وأن الخيار الوحيد هو: الحل السياسي التفاوضي، أي: تقديم تنازلات متبادلة. فالأزمة كشفت بؤس الحركة السياسية العراقية الرسمية، وهو ما يفتح المجال لتسريع بلورة تيار وطني ديمقراطي عراقي عابر للطوائف والقوميات، ومن الجدير بال1كر، وان الجريدة تحت الطبع نقلت وكالات الانباء، عن ايقاف مؤقت للعمليات العسكرية، كبادرة ايجابية في ظل الوضع المتوتر.
من جهة أخرى، فإن أزمة العراق الأخيرة كشفت بالملموس عن المواقف الحقيقية للقوى الدولية، تجلّت بدور حيادي وعقلاني لروسيا، بشهادة مسعود بارزاني نفسه، قائم على ثنائية: الحفاظ على وحدة العراق، وضمان الحقوق القومية الكردية كمهمتين متكاملتين، مقابل دور ملتبس وتوتيري للولايات المتحدة، عبر تضخيم مفتعل ومصطنع لدور القوى كلها بالتناوب، مع العلم أنها هي التي تمسك بزمام الأمور في العراق، كما صرح رئيس الاقليم نفسه في اشارة الى الموقف «غير المفهوم» للولايات المتحدة.
المسألة القومية في العراق ليست بالجديدة، وجرى تمييعها وتأجيل حلّها لعقود خلت، لتبقى صاعق تفجير جاهز وورقة بازار الصراع السياسي في كل مرحلة من عمر البلاد، لكن من المؤكد: أن حل هذه المسألة حلاً نهائياً يرتكز على ثنائية، وحدة الأراضي العراقية، والحقوق المشروعة للشعب الكردي، وغيره من الشعوب القاطنة في العراق، هذا الحل الذي يجري تغييب أو التقليل من شأن أحد أطرافه، من قبل حكومتي أربيل وبغداد على حد سواء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 834