دلالات «أزمة تأشيرات» واشنطن وأنقرة
أزمة دبلوماسية جديدة ظهرت في العلاقات الأمريكية_ التركية، فيما عرف بـ«أزمة التأشيرات»، بعد تعليق منحها من قبل الجانب الأمريكي في 8 تشرين الأول الحالي، رداً على اعتقال موظف تركي في القنصلية الأمريكية في أنقرة، وموظفاً في إدارة مكافحة المخدرات الأميركية في اسطنبول، للاشتباه في صلتهما بمحاولة الانقلاب في تركيا العام الماضي، وهو اتهامٌ ترفضه واشنطن. ليتبعه مباشرةً رد تركي مماثل، بتعليق السفارة التركية في واشنطن منح التأشيرات لدخول أراضيها
يقول إبراهيم كاراغول، «رئيس تحرير صحيفة بني شفق»، المقربة من الحزب الحاكم، في مقال له تبع الأحداث المذكورة: «هذه التطورات الأخيرة هي آخر حلقة في حرب واشنطن غير المعلنة على تركيا»، مضيفاً: إن هدف واشنطن هو «السيطرة على الرئيس أردوغان من أجل سحب تركيا إلى المدار الأمريكي»، فهل تشهد العلاقة بين واشنطن وأنقرة فعلاً تغيرات كبرى في المرحلة المقبلة ؟...
ضرورات النجاة التركية
الحقيقة، أن ما يمكن تسميته بالافتراق في السياسات الأمريكية_ التركية قد بدأ فعلاً، وتسارع على إثر الانقلاب الفاشل في تموز 2016، بعد اجتماع قرائن العلاقة الأمريكية بهذا الانقلاب لدى السلطات التركية، لكن في الوقت نفسه لا يمكن التنبؤ بافتراق مُيّسر في العلاقات بين البلدين، بالنظر إلى عقود طويلة من التحالف الرصين بينهما، وبالتالي ظهور تعقيدات وشدٍ وجذبٍ مستمر عند كل اختبار لتلك العلاقة.
من المؤكد أن تركيا باتت تستشعر جديّاً إمكانية انتقال مشروع الفوضى_ أمريكي الصنع والإدارة- نحوها، انطلاقاً من تجربة الانقلاب الفاشل، وتمدّد التنظيمات الإرهابية على حدودها الجنوبية مع سورية والعراق، إضافة إلى احتمال استثمار التناقضات التركية المتعلقة بالمسائل القومية في تفجير الوضع الداخلي، بالتالي: إن ذهاب تركيا اتجاه تنسيق إقليمي مع العراق وإيران، ومع روسيا باعتبارها الطرف الأكثر جدية في محاربة الإرهاب، هو ضرورة تتعلق بالأمن القومي التركي، بغض النظر عن الأطر التقليدية التي ترسم العلاقات التركية مع دول المنطقة والعالم.
في هذا السياق يقول «كبير مستشاري رئاسة الوزراء التركية»، عمر فاروق كوركماز، في لقاء متلفز: إن «تركيا لها علاقات قديمة جداً مع الولايات المتحدة ولديها اتفاقيات كثيرة»، وإن «تركيا تعتبر الولايات المتحدة حليفاً مهماً وجيداً، وبناءً على هذا تعاملت لعقود طويلة مع واشنطن في سياسات كثيرة داخل تركيا، وفي المنطقة وفي العلاقات الدولية»، لكن كبير المستشارين يستطرد قائلاً: «في الآونة الأخيرة لوحظ أن واشنطن تريد أن تغير سياستها نحو تركيا في مجالات كثيرة، بل تنزعج من الموقف التركي في بعض القضايا المتعلقة في المنطقة والإقليم، أبرزها الأزمة السورية، والدور التركي في الأزمة الخليجية»، ويرى، كوركماز، أنه «على واشنطن أن تتعوّد على تركيا جديدة تتحرك بحرية، مشيراً إلى أن الأزمة الأخيرة تتعلق بالتأشيرات، لكن لها سوابق، وواشنطن لديها إشكالية كبيرة، واختلافات بين تصريحات مسؤوليها».
سياسة الإخضاع الأمريكية
تعتبر الخطوة الأمريكية، رسالة مبطّنة إلى تركيا، تبيّن فيها عدم الرضى عن السلوك التركي في الملفات الإقليمية والدولية، وخصوصاً في المنطقة، بما فيها سورية والعراق، والأزمة الخليجية. لكن نقطة الافتراق الأساسية تتمثل في العلاقات التركية_ الروسية، والتنسيق بينهما على الصعيد العسكري في سورية، وإدلب تحديداً، الذي تؤكد أنقرة أنه ثمرة تعاون بين الدول الضامنة للاتفاق الموقع في أستانا حول مناطق «خفض التصعيد».
في السياق ذاته، نشرت صحيفة «مللي غازيته» تقريراً تحليلياً، رأى فيه المحلل السياسي التركي مصطفى قايا، أن التقارب التركي الإيراني الروسي خلال الفترة الأخيرة، وخاصة فيما يتعلق بمفاوضات أستانا حول سورية، كانت بمثابة خطوات من شأنها إفشال الخطط الأميركية في المنطقة. وأضاف: «بعد تقارب روسيا وإيران وتركيا في آستانا، ظهرت احتمالات تغيّر الموازين في المنطقة، بشكل يتعارض مع المصالح والخطط الأميركية، وفي الحقيقة يأتي هذا الأمر في مقدمة الأسباب التي تقف وراء أزمة التأشيرات بين أنقرة وواشنطن».
هذا بالإضافة إلى حياد تركيا جزئياً عن علاقتها بحلف شمال الأطلسي، بعد شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية «S400»، كسابقة في توريدات السلاح التركي، بعد عقود من الاعتماد على الغرب في هذا المجال.
هذه التحولات في السلوك التركي، لاقت بالمقابل محاولات تأديب أمريكية، فالسفير الأمريكي السابق في تركيا، جون باس، الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء أزمة التأشيرات، قال في إحدى تصريحاته قبل نقله إلى أفغانستان: «إن عدم تعرض تركيا لأي اعتداء من قبل تنظيم «داعش» الإرهابي، طوال الأشهر الماضية، هو نتيجة للتعاون الاستخباراتي والأمني بين أنقرة وواشنطن» وهو ما يمكن اعتباره تهديداً مبطناً لأنقرة، وتصريحاً يفتح الباب للتساؤل عن الهجمات الإرهابية التي وقعت في تركيا خلال السنوات الأخيرة، طالما أن التنسيق مع واشنطن هو من حمى تركيا من الاعتداءات الإرهابية، بحسب تصريح السفير الأمريكي.
حل مشروط!
أعربت مؤخراً المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، هيذر ناورت، عن تفاؤلها بإمكانية حل أزمة التأشيرات مع تركيا، وقالت المتحدثة باسم الوزارة: إن الأزمة «تعقّد الأمور لكنني آمل واعتقد بأننا جميعاً نأمل بأن تركيا كحليف قوي في «حلف شمال الأطلسي» ستستطيع تجاوز هذا الأمر».
وفي محاولات حل أزمة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، يزور أنقرة هذا الأسبوع وفد أمريكي، حيث ذكرت قناة «خبر ترك» التلفزيونية الخاصة: أن الوفد طلب من أنقرة معلومات ودليلاً في ما يتعلق باعتقال الموظفين. وأضافت: إن الوفد حدد أربعة شروط لحل أزمة التأشيرات، تشمل ضرورة تقديم تركيا معلومات عن تحقيقاتها المتعلقة بالموظفين المعتقلين، ودليلاً في شأن، متين طوبوز، الذي كان يعمل بإدارة مكافحة المخدرات الأميركية. بالمقابل: صرّح وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، في مؤتمرٍ صحفي، رداً على سؤال في شأن التقرير الخاص بطلبات الوفد الأميركي: «سنتعاون إن كانت مطالبهم تتماشى مع أحكام دستورنا، لكننا لن نرضخ لإملاءات وسنرفض أية شروط لا يمكننا تنفيذها».
يمكن للبلدين تجاوز «أزمة التأشيرات»، لكن احتمال ظهور الخلافات مجدداً بينهما يبقى أمراً وارداً بقوة، طالما أن واشنطن مستمرة بعقلية الهيمنة على سياسات حلفائها، بينما بدأت تركيا تتحسس عملياً نتائج تنسيقها مع دول الإقليم وروسيا ضمن نموذج قائم على الاحترام المتبادل، يضمن على الأقل تخفيف المخاطر الأمنية عليها في المرحلة الحالية، ويفتح لاحقاً مجال التعاون البنّاء مع فضاءات سياسية واقتصادية جديدة، الأمر الذي هو أجدى من اللهاث الذي طال عقوداً اتجاه غربٍ موصد الأبواب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 833