كوريا: خارطة طريق روسية صينية
بعد التجربة الأخيرة لصاروخها الباليستي، قالت وكالة الأنباء المركزية لكوريا الديمقراطية، نهاية الشهر الماضي، إن الصاروخ هواسونغ-14 وصل إلى ارتفاع بلغ 3724.9 كم، وقطع مسافة 998 كم، قبل أن يسقط في المياه الواقعة قبالة الساحل الشرقي لشبه الجزيرة الكورية، ووصفت بيونغ يانغ صاروخها الأخير بالعابر للقارات، وهو ما فتح المجال لمستوى جديد من التوتير الأمريكي في تلك المنطقة، بحجة أن هذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى عمق الأراضي الأمريكية...
أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن بيونغ يانغ أطلقت صاروخاً باليستياً متوسط المدى، وليس صاروخاً عابراً للقارات كما يزعم البنتاغون، وضمن البيان الذي أعلنته الدفاع الروسية، أكدت: أن مواصفات الصاروخ الكوري تتوافق مع المواصفات التكتيكية للصواريخ الباليستية متوسطة المدى، وأنه ارتفع إلى 681 كم، وحلق لمسافة 732 كم، وفي مكان آخر من هذا المقال سنورد زوايا الموقف الروسي الأخرى، لكن هذا الجزء بالذات سنخصصه للرد على العويل الأمريكي حول مدى خطورة التجربة الكورية، واحتمال وصولها إلى الأراضي الأمريكية...
فعل أم رد فعل؟
كلمة حق من مكان غير متوقع يوضح جزءاً مهماً من أسباب التجربة الكورية الأخيرة، حيث اعتبرت وكالة «يونهاب» الكورية الجنوبية، أن «استعراض بيونغ يانغ لقوتها النووية الصاروخية، يظهر سعيها الجاد لإحداث تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاهها».
هذا المطلب لبيونغ يانغ، كما هو موصوف، يفتح الباب لجملة تساؤلات، لماذا تشتعل حرب التصريحات والمناورات العسكرية ودعوات إلى مجلس الأمن، بعد كل تجربة لكوريا الديمقراطية، وليس بعد كل تحرك للبحرية الأمريكية بالقرب من السواحل الكورية وإقامة التدريبات العسكرية هناك، أو بعد إرسال منظومات الصواريخ «ثاد»، إلى جيران بيونغ يانغ؟
بمعنى آخر، هل ما تقوم به كوريا الديمقراطية، عمليات فعل أم رد فعل على الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من حدودها؟ ومن جهة أخرى: نعم، صحيح أن التجارب الكورية تثير قلق جيرانها، وتهدد بالانزلاق نحو حرب واسعة النطاق في تلك المنطقة، لكن أيضاً، هل حل هذه الأزمة مقصور على الطريقة المعتادة التي تتعاطى فيها واشنطن وحلفاؤها مع هذا الملف الحساس، كما سنرى في العرض؟
الاستقواء بالعسكرة
في أعقاب التجربة الصاروخية الأخيرة لكوريا، قال مكتب رئيس كوريا الجنوبية، مون جيه إن: إن الرئيس أمر بإجراء مباحثات مع واشنطن بشأن نشر مزيد من وحدات منظومة الدفاع الصاروخي «ثاد». كما أعلنت كوريا الجنوبية أنها أجرت مع الولايات المتحدة، عمليات مشتركة لإطلاق صواريخ باليستية، رداً على تجربة بيونغ يانغ الأخيرة.
وفي السياق نفسه، أعلن قائد القوات الجوية الأمريكي في المحيط الهادئ، الجنرال تيرنس أوشنيسي، أن بلاده وحلفاءِها يُعِدُّون لاستخدام «قوة سريعة وقاتلة ومدمرة» ضد كوريا الشمالية إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وأيضاً، نفذت قاذفتان أمريكيتان من طراز «B-1B»، تحليقاً في أجواء شبه الجزيرة الكورية، وجاء في بيان صادر عن القوات الجوية الأمريكية بهذا الصدد أن طلعة القاذفتين كانت رداً مباشراً على تجربة الصاروخ الباليستي التي نفذتها بيونغ يانغ، إضافة إلى تهديدات هذا الحلف بالذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار المزيد من العقوبات الاقتصادية على كوريا الديمقراطية.
هذه الموجة من التصعيد يقابلها من الجانب الآخر أي: من كوريا الديمقراطية، تهديد بالمزيد من التجارب الصاروخية، طالما أن بينونغ يانغ تعتبر وجود واشنطن العسكري في تلك المنطقة تهديداً لها، وجاء هذا صراحة في البيان الذي نشرته بيونغ يانغ في أعقاب التجربة الصاروخية بالقول: إن هدف التجربة الأخيرة هو إرسال تحذير صارم إلى الولايات المتحدة التي تدلي بتصريحات غير منطقية، وتطلق حملة محمومة من أجل فرض عقوبات، وممارسة ضغوط على كوريا الديمقراطية.
هنا، يبدو العجز الأمريكي عن إخضاع كوريا الديمقراطية بالطرق التقليدية المعتادة، أي: الاستقواء بالعسكر والعقوبات الاقتصادية، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن تطور القدرات العلمية والصناعية العسكرية لدى كوريا الديمقراطية، يضع واشنطن في كل مرحلة ضمن إحراج أكبر طالما أنها بسياساتها الحالية لا تستطيع تحقيق أهدافها السياسية المعلنة، التي هي بالأصل صعبة التحقيق في ظل ارتفاع الكلفة البشرية والاقتصادية لأي حرب يمكن أن تخوضها واشنطن في تلك المنطقة، حتى أن الحلفاء الغربيين يبتعدون قدر الإمكان عن أجواء التهديد بعمل عسكري ضد بيونغ يانغ، وتقتصر مواقفهم على التنديد بالتجارب الكورية.
بدوره، صرح وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، بعد لقائه نظيره الأمريكي جيمس ماتيس، بأن: «اللجوء إلى الخيار العسكري الذي تتحدث عنه واشنطن ضد كوريا الشمالية احتمال بعيد جداً».
من جهة أخرى، اقتصر موقف الاتحاد الأوروبي على التنديد، بإطلاق كوريا الشمالية صاروخاً جديداً، واعتبر أن ذلك يهدد جدياً السلم والأمن الدوليين.
أقلمة الأزمة أمريكياً
الملفت في أعقاب التجربة الأخيرة هو الصدام الدبلوماسي بين واشنطن وكل من موسكو وبكين، ذلك بعد تحميل واشنطن هاتين الأخيرتين المسؤولية عن إطلاق بيونغ يانغ صاروخها الباليستي.
وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، صرح بأن: واشنطن تحمّل موسكو وبكين المسؤولية عن التهديد الناجم عن بيونغ يانغ، ووصف الوزير الأمريكي الطرفين الروسي والصيني بأنهما، «داعمان اقتصاديان رئيسان لبرنامج بيونغ يانغ النووي الصاروخي». ومن جهة أخرى، قالت المندوبة الدائمة الأمريكية لدى الأمم المتحدة: إن وقت المفاوضات مع كوريا الشمالية قد انتهى...
وفي هذا الإطار، ردت الخارجية الروسية على التصريحات الأمريكية، معتبرة أن محاولات واشنطن تحمليها والصين مسؤولية التصعيد في شبه الجزيرة الكورية محض افتراء، داعية في بيانها إلى الامتناع عن اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى المزيد من التصعيد في حدة التوتر بالمنطقة.
وأشارت الخارجية الروسية إلى أن: هذه التطورات جاءت على خلفية تكثيف الأنشطة العسكرية الأمريكية والكورية الجنوبية واليابانية في المنطقة، حيث تستمر واشنطن في اتباع نهج يقضي بنشر درعها الصاروخية في كوريا الجنوبية.
هنا يبدو الرد الروسي على الاتهامات الأمريكية هجوماً معاكساً، يذكر صراحة أسباب تصعيد التوتر في المنطقة، والمتعلق بالنشاط العسكري الأمريكي هناك، وتستكمل الوزارة بيانها بالتذكير مجدداً بخارطة الطريق المطروحة من قبل روسيا و الصين، والتي تقضي إلى حل شامل لجميع الملفات القائمة في شبه الجزيرة الكورية، بما فيها المسألة النووية بطرق سياسية دبلوماسية، عبر إقامة الحوار دون طرح شروط مسبقة.
هذا الإصرار الروسي الصيني على المضي قدماً في مبادرة «خارطة الطريق»، يضع سياسات واشنطن ضمن خيارات أضيق، أفضلها الالتحاق بخارطة الطريق الروسية-الصينية، وهو ما يرجح أن يحدث طالما أن بيونغ يانغ باستمرار بتحديها المستمر والمتصاعد لواشنطن، تضع الأخيرة في موقف محرج من حيث مكانتها الدولية ونفوذها في تلك المنطقة.
لكن أيضاً من المرجح أن تأخذ عملية الالتحاق الأمريكي وقتها، دون نفي احتمال التصعيد أكثر في تلك المنطقة، وصعوبة التنبؤ هنا بالآجال الزمنية تعود إلى الصراع الحاصل والمشتد اليوم داخل الإدارة الأمريكية، حول مستقبل العلاقات الدولية وطرق حل القضايا العالقة في العالم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 822