«الوسط» المتشدد بوصفه يميناً فعلياً

«الوسط» المتشدد بوصفه يميناً فعلياً

خرجت النتائج النهائية للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية لتكشف عن مشهدٍ جديد يضع فرنسا وقواها السياسية على مفترق طرق، ولتثبت من جديد جملةً من الحقائق التي لم يعد من الممكن توريتها أو الالتفاف عليها.

حلَّ «مرشح حزب المال»، إيمانويل ماكرون، في المرتبة الأولى من نتائج الجولة الأولى (24.1%)، فيما حظيت مرشحة «الجبهة الوطنية»، مارين لوبان، بالمرتبة الثانية (21.3%)، ليتأهل كلاهما للجولة الثانية في السابع من أيار. وبينما نال مرشح حزب «الجمهوريين»، فرانسوا فيون (20.1%) من نسبة التصويت، استطاع المرشح اليساري عن حركة «فرنسا الأبية»، جان لوك ميلانشون، أن يحصد (19.58%) من الأصوات، ليليه بعيداً جداً، مرشح «الحزب الاشتراكي»، بونوا آمون، بنسبة (6.3%).

قراءة في نتائج الانتخابات

ثبتت نتائج الانتخابات حقيقة الانهيار، الذي أصاب الأحزاب التقليدية، إذ أنه فقط 26% من الأصوات ذهبت إلى تلك الأحزاب التقليدية (في حال جمعنا نسبة آمون مع فيون). وهو ما يدل على ارتفاع حالة السخط الاجتماعي والاحتقان المتراكم ضد السياسات الرسمية الفرنسية السائدة لدى الأحزاب المتعاقبة على الحكم، في المقابل، وحسب دراسة استقصائية أجراها معهد «إيفوب»، فإن ثلاثة أرباع من يعتبرون أنفسهم غير متحزبين، ذهبت أصواتهم بالتساوي بين الثلاثي (ماكرون، لوبان، ميلانشون).

أما الطامة الكبرى بالنسبة لقوى المال، فتكمن بالواقع الجديد، الذي ترفض الاعتراف به: لو جُمعت الأصوات التي ذهبت إلى لوبان وميلانشون فقط، فسنكون أمام ما يقارب الـ15 مليون ناخب من أصل 36 مليوناً، يؤيدون لا «التفاوض» على الخروج من حلف شمال الأطلسي، بل الخروج الفوري منه! وكذلك الذهاب نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ورفض الهيمنة الأمريكية، والعلاقات الجيدة مع روسيا، والحل السياسي في سورية. وهذا لم نتحدث بعد عن الأصوات التي تشاطر الرأي ذاته، لكنها ذهبت للمرشحين الآخرين، تحت ضغط التأثير الإعلامي والحملات الانتخابية وما رافقها.

ثنائي الجولة الثانية: من مرشح الفاشية؟

ما إن ظهرت النتائج الأولية، حتى احتدم الجدل في الأوساط الفرنسية، وبدفعٍ من قوى الإعلام، ومن المرشحين الخاسرين الذين أعلنوا دعمهم لماكرون فوراً، يجري الترويج إلى أن لوبان هي المرشحة الفاشية، استناداً إلى نزعتها القومية، وتطرفها في مسائل الهجرة.

وإن كنا لسنا في وارد المفاضلة بين السيء والأسوأ، إلا أن ما ينبغي الوقوف عنده، مرةً أخرى، هو: إن الفاشية ليست «شتيمةً» ترمى جزافاً على كل من يحمل طروحات استبدادية ذات طابع ديني أو قومي، بل إن الأساس هنا في تحديد طبيعة الفاشية الجديدة، هو اقتصادي اجتماعي مرتبط بمصالح قوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي. وعندئذٍ يغدو واضحاً مَن مِن المرشحين أقرب إلى مصالح هذه القوى بالنظر إلى برامجهم (أنظر: انتخابات 2017: فرنسا تبحث عن ذاتها- قاسيون- العدد 807).

ساهم ماكرون في بعض من أسوأ «الإصلاحات» النيوليبرالية خلال السنوات الخمس الماضية، تلك السياسات، التي حاولت ولا تزال انتزاع المكتسبات الاجتماعية المحققة بنضالات الشعب الفرنسي، ولأن استمرار السياسات ذاتها، وتصعيدها ربما، يتطلب تقديم «بدائل»، جهد ماكرون في تصوير نفسه على أنه «من خارج المنظومة» و«لا يسار ولا يمين»، بل «متشدد في وسطيته يسعى لإرضاء الجميع» وفق منهج نيوليبرالي واضح المعالم.

وهنا، يبدو ماكرون في أحسن الأحوال حلاً مؤقتاً للرأسمالية، والمركزية الأوروبية وممثليها، السياسيين، إذ أنها الطريقة المثلى لكسب الوقت، وهو الشيء الوحيد الذي بيد النيوليبرالية أن تفعله في ظل ارتفاع مستوى الاحتقان الشعبي العالمي ضدها.

صفحة جديدة لليسار الفرنسي

لم يصل مرشح حركة «فرنسا الأبية»، جان لوك ميلانشون، إلى الرئاسة. إلا أن ذلك لا يعني، بحالٍ من الأحوال، أن شيئاً لم يتحقق في الجو والمناخ العام الذي أحاط بالحملة الانتخابية للحركة التي أخذ نجمها وشعبيتها يتصاعدان في الداخل الفرنسي. وحتى النتيجة التي حققتها الحركة في الجولة الأولى من الانتخابات، تشي بأن صفحةً جديدةً لليسار الفرنسي تفتح من جديد.

رغم الحرب الإعلامية التي مورست على الحركة، بدءاً من «استطلاعات الرأي» وتحكمها بالمزاج العام، مروراً بإرهاب «التقارير الاقتصادية» التي تحدثت عن «قلق المستثمرين من وصول ميلانشون إلى الرئاسة»، وليس انتهاءً عند تركيز الإعلام على وصف ميلانشون بـ«تشافيز فرنسا... صاحب المشروع المجنون»، واستثمار فترة الصمت الانتخابي للتركيز بكثافة على «حالة الفوضى التي تعيشها فنزويلا»، رغم ذلك كله، استطاع ميلانشون تحقيق قفزة نوعية عما حققه في انتخابات عام 2012، وتصدرت حركة «فرنسا الأبية» توجهات الناخبين من الشباب، الذين تراوحت أعمارهم بين (18- 20 عاماً)، ذلك عدا عن اكتساحها «الحزب الاشتراكي»، مع ما يحمله ذلك من استعادة لصوت اليسار الحقيقي في وجه «الاشتراكية» المصنعة أوروبياً.

وما يدعو للتفاؤل اليوم، هو حالة الفرز الجارية في صفوف اليسار والنقابات، على أساس النقاش القائم حول توجهات التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وما يحمله ذلك من مقاومة للطرح السائد حول «ضرورة» التصويت لماكرون (مرشح المال) في وجه لوبان، وكذلك التحضير للاستحقاقات السياسية القادمة، التي لا تقف عند حد الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في حزيران المقبل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
808