ظاهرة «الوساطة القطرية» تنتهي

ظاهرة «الوساطة القطرية» تنتهي

حاولت قطر - بخصوصيتها الاقتصادية والجغرافية- في العقدين الماضيين على أقل تقدير الموازنة بين مكانتها في مجلس التعاون الخليجي، وشبكة علاقاتها الإقليمية الأوسع مع تركيا وإيران، وكذلك علاقاتها مع الولايات المتحدة، تلك الموازنة التي ترتكز على مقومات نجاح أهمها تلك الأخيرة، أي العلاقات مع واشنطن والتنسيق معها فيما يخص قضايا المنطقة...

حاولت قطر في السنين الأخيرة الاستفادة قدر المستطاع من الأوضاع المتوترة إقليمياً، والحصول على «دور موثوق» كـ«وسيط نزيه» في الصراعات الدائرة في المنطقة، سواء نشاطها في ملف القضية الفلسطينية، أو الوساطات ذات «الطابع الإنساني» في دول القرن الإفريقي والسودان ولبنان...

أدوار بالوكالة

هذه الوساطات القطرية، يمكن دراسة كل منها على حدة من حيث أسبابها وأهدافها، لكن إذا أردنا توصيف «دور الوسيط» بحد ذاته في هذه المنطقة المتوترة، وبشكل عام، يمكن الوصول إلى جملة من الاستنتاجات:

من الطبيعي أن قطر لوحدها، لو أرادت تسهيل الاتفاق بين طرفين متنازعين أياً كانا، لا تستطيع وحدها القيام بهذه المهمة، دون وجود توافق إقليمي وضوء أخضر من قبل بعض القوى الدولية على هذا النشاط، وبالتالي فإن أدوار «الوساطة» القطرية هي أدوار موكلة أو موافق عليها من جانب قوى إقليمية ودولية.

من جهة أخرى، جرت الاستفادة من موقع قطر الإقليمي وبعدها «العربي- الإسلامي»، في تحويلها إلى مركز سياسي إقليمي، يشابه «جنيف» المركز السياسي الدولي من حيث الشكل، إن صح التعبير، مع اختلاف جوهري وحيد، هو أن قطر مركز إقليمي بدفع غربي وأمريكي كبير، بينما تحولت «جنيف» إلى مركز سياسي دولي فاعل ضمن توازن دولي محدد.

هذه الخصوصية التي اكتسبتها قطر في مرحلة سابقة، تحت رعاية واشنطن، جرى استثمارها أيضاً بتحويل هذه الدولة الصغيرة إلى ثقب أسود، لجذب ملفات التفاوض الإقليمي، وبالتالي إبعاد هذه الملفات عن تأثير دول إقليمية أخرى، رغم وزنها الجيوسياسي والاقتصادي الذي لا يقارن مع شبه الجزيرة تلك على شواطئ الخليج العربي، هذا الأمر تم الاستفادة منه في ملف الهدنة بين الفصائل الفلسطينية والكيان الصهيوني بعد اعتداءات جيش الاحتلال على غزة في أعوام 2009، 2012، و2014، إضافةً إلى «اتفاق الدوحة» بين القوى السياسية اللبنانية، وغيرها من الوساطات في السودان «الحكومة- وحركة العدل والمساواة»،  وأفغانستان «الحكومة، وطالبان» إلخ...

هذا الدور الموكل لقطر، أسس عملياً لشبكة علاقات واسعة سواء مع حكومات المنطقة، أو مع قوى مناهضة للحكومات، وبالتالي، فإن هذه الميزة دفعت واشنطن إلى الاستفادة من قطر في مرحلة التحركات الشعبية التي اجتاحت المنطقة قبل ثمانية أعوام، وتحديداً في مصر وسورية، كما لعبت أدوراً مشبوهةً أخرى في ليبيا والعراق واليمن.

الاندفاعة الغربية انتهت

لكن مع فشل واشنطن في تمكين «الإسلام السياسي» في مصر وليبيا بمساعدة تركيا وقطر، وعدم قدرتها على إنهاء الأزمة السورية واليمنية بـ«الطريقة الأمريكية»، ذلك الفشل سرعان ما ارتد على قطر التي تحولت إلى «مركز خطر» إقليمي يلاقي الاتهامات من أوساط سياسية وشعبية في مصر وليبيا وسورية، وهو ما يفسر الانتقال القطري للعمل بعيداً عن الأضواء، ودون ضجات إعلامية كبرى اعتادت إثارتها علها تنحي الأنظار عن اندفاعها العلني سياسياً ومالياً في المنطقة في المرحلة التي شهدت تغيراتٍ سياسيةً أوليةً في تونس ومصر واليمن.

وبناءً على الاستنتاج القائل بقوة الدور القطري اعتماداً على الاندفاعة الغربية في المنطقة، فيمكن القول: أن موازين القوى الدولية والتي فرضت وضعاً إقليمياً مغايراً لما سعت إليه واشنطن وحلفاؤها الإقليميون، يعني بطبيعة الحال فقدان قطر لأجزاء من وزنها السياسي على الصعيد الإقليمي، وهو ما يظهر بالملموس إذا ما نظرنا إلى الملف الفلسطيني الذي تعاود مصر لعب دورها المعتاد فيه، والنشاط الروسي والإيراني لإعادة الملف إلى واجهة البحث مجدداً.

العلاقات الإيرانية- القطرية

بالعودة إلى فكرة الاختلاف بين دول الخليج العربي على صياغة المواقف الخارجية، يتمايز الموقف القطري عن مواقف معظم دول الخليج فيما يخص الموقف من إيران، لكن أيضاً ضمن أدوار تفرضها ضرورات المرحلة والإيحاءات الغربية لقطر، لكن هذا لا ينفي التمهل القطري في اللحاق بركب الولايات المتحدة والسعودية مثالاً في الهجوم الإعلامي والسياسي، وتقديم موقف متوازن نوعاً ما في علاقاتها مع إيران، لاعتبارات سياسية واقتصادية فالبلدان يشتركان في استثمار أكبر حقل غاز في العالم «حقل الشمال»، الذي يقع ثلثه في إيران والباقي في قطر، ويتواجد على عمق 3 كم تحت قاع الخليج العربي، ويحوي 51 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، كما أن التجاور بين البلدين وإدراك قطر لوزن إيران الإقليمي لا يسمح بتحويلها إلى جبهة صدام متقدمة كما تريدها السعودية، التي رفضت هي والإمارات دعوة أمير قطر، تميم بن حمد، لـ«استضافة حوار بين الخليج وإيران».

وكانت أول دولة خليجية رحبت بالاتفاق النووي بين إيران ومجموعة «5+1»، وقبل ذلك في عام 2010 وقع البلدان اتفاقيةً للتعاون الأمني، تشمل مكافحة الجريمة وحراسة الحدود ومكافحة تهريب المخدرات.

هذا السلوك الذي يبدو متوازناً إلى حد ما في العلاقات الإيرانية- القطرية، بالنسبة لأقران قطر ضمن مجلس التعاون الخليجي، متعدد الوظائف بالنسبة لقطر، فهو من جهة ضرورة لإبعاد قطر عن أي صدام إقليمي لا تتحمله، بموقعها وقدراتها وحتى امتداداتها السياسية المنحسرة بانحسار النفوذ الأمريكي عموماً في المنطقة، ومن جهة أخرى تدرك واشنطن أهمية الاستفادة من قطر في إبقائها وسيطاً لتمرير رسائل غربية لطهران، بعيداً عن أعين الإعلام الذي يكرس نغمة التصعيد الغربي اتجاه إيران.

لكن مع محاولات قطر للاحتفاظ بما أمكن من علاقاتها الطيبة مع إيران، والتي وصفها تميم بن حمد في أيلول من العام الماضي، بـ«العلاقات الحميمة» أثناء اتصاله مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، تلك المحاولات لا تعني تخلي قطر عن تلبية طلبات غربية، لكن ليس بالقدرات التي سنحت لها في السنوات القليلة الماضية، وبالتالي، فإن الطريق طويل أمام قطر في حال أرادت مسايرة التموضعات الإقليمية المتغيرة في هذه المرحلة وفي المستقبل، ومن المرجح أنّ «ظاهرة الوساطة» التي تعد سِمة السياسة الخارجية القطرية في مرحلة معينة، قد تذهب دون رجعة، ذلك أن أدوات التأثير الإقليمي تنتقل إلى أماكن أخرى بعيداً عنها، باتجاه قوى صاعدةٍ كإيران، ومصر كدولة مركزية اعتادت بسياستها الخارجية التأثير على الملفات العالقة في المنطقة.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
808