فرنسا تغيرت... أياً كان الفائز

فرنسا تغيرت... أياً كان الفائز

تتجاوز أهمية الانتخابات الرئاسية الفرنسية إطار تحديد المستقبل الفرنسي. فإن كانت الانعكاسات المحلية للنتائج المرتقبة تحمل من الأهمية ما تحمل، إلا أن المشهد الذي نراه اليوم يتعدى حدود الداخل الفرنسي، ليتجه مجدداً نحو إثبات الحقيقة العصية على النكران: النظام الدولي الذي خبرت شعوب العالم سياطه منذ النصف الثاني من القرن العشرين يتداعى وبسرعة كبيرة على نحوٍ لم يحلم فيه حتى أكثر المبشرين تفاؤلاً.

 

ليس انكفاء مرشح الحزب «الاشتراكي»، بونوا آمون، أو تراجع شعبية فيون مرشح الحزب الشعبي، دليلاً فقط على «أزمة ما» داخل هذا الحزب أو ذاك كما تجهد وسائل الإعلام الغربية أن تقنعنا. بل إن أفول نجم الأحزاب، التي أدت فروضها بتطبيق السياسات النيوليبرالية نفسها، هو إثبات جديد على أن فضاءً سياسياً قديماً ممثلاً لحزب المال يترنح اليوم بين سكرات الموت، دافعاً إلى الأمام ما أمكنه من قوى سياسية بـ«طرابيش» جديدة، واهماً أن ذلك من شأنه أن يؤخر موتاً محتماً. وليست المرة الأولى التي تحدث هذه الظاهرة، فقد سبقت فرنسا كل من إسبانيا و اليونان، حيث «فص ملح» الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية قد «ذاب».

هل هنالك تعبير أكثر دقةً عن طبيعة الأزمة التي تعانيها أوروبا من اتفاق «أقصى اليمين» و«أقصى اليسار» بحسب المسميات الإعلامية على إفساح المجال لفرنسا للخروج من القبضة الأمريكية وأدواتها الأوروبية العسكرية والاقتصادية؟ ثم هل صعود كل من ميلانشون ولوبان سوى تعبير عن عمق أزمة الفضاء السياسي القديم المتهاوي.

لكن الجديد هو أن فرنسا ليست اليونان ولا إسبانيا. وإن النتائج المترتبة على أفول سياسات القوى التقليدية فيها لن تنحصر في حدود البلاد. بل هي من القوى الدولية الرئيسية التي «تقطر» غيرها، وتفتح الباب واسعاً أمام رهطٍ من الدول التي تنتظر تغير موازين القوى داخل القارة الأوروبية وخارجها، للانقلاب ليس على قيود الاتحاد الأوروبي فحسب، بل حتى على حلف شمال الأطلسي- الذراع العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، حيث اثنان من المرشحين الأربعة الرئيسين يطالبون عملياً بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

ما لا يمكن نكرانه أيضاً هو الحالة البادية اليوم في سلوك المرشحين الرئيسيين اتجاه تحديد طبيعة العلاقة مع كلٍ من الولايات المتحدة وروسيا. ولا تحتاج المسألة إلى كثير من الحسابات: من أصل المرشحين الأربعة الرئيسيين للانتخابات، واحد فقط من يعلن عن رغبته في توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة، بينما يتفق جميعهم على الحوار مع روسيا بالحد الأدنى، لتصل الطروحات حد المطالبة بتشكيل تحالف دولي مع «بريكس». هل يفصح ذلك عن شيء؟ الأفضل أن نترك للمتلقي حسن التقدير..!

وإلى جانب التأثير الدولي والأوروبي الذي ستسببه نتائج الانتخابات الفرنسية، ثمة ما يرتبط مباشرةً بالمسألة السورية، حيث أن انقلاب غالبية المرشحين الرئيسيين على سياسات الأحزاب التقليدية المتعاقبة على الحكم لا يقتصر على سياسات الداخل، بل حتى على تلك الملفات التي تورطت فيها فرنسا بالنيابة عن الولايات المتحدة بإدارتيها السابقة والحالية، وهو ما يتجلى اليوم في أن الحد الأدنى لطروحات المرشحين هو دعم سير الحل السياسي في سورية، بينما يصل الحد الأقصى لدى البعض إلى ضرورة التوازي بين دفع الحل السياسي إلى الأمام والمشاركة المكثفة في عمليات مكافحة الإرهاب خارج الفلك الأمريكي.

أياً كانت النتيجة التي ستخرج بها الجولة الأولى من الانتخابات، فإن الواضح في المشهد الفرنسي سنكرره هنا: تهاوي الفضاء السياسي القديم وظهور قوى جديدة، إعادة تحديد فرنسا لعلاقتها مع أوروبا، العلاقات مع روسيا لم تعد «احتمالاً» بل ضرورةً توازي في أهميتها الحاجة إلى التخلص من القيد الأمريكي. أما الثابت الأهم: حراكاً شعبياً لم يعد يقبل بأقل من تثبيت واستعادة المكتسبات الاجتماعية التي يجري سلبه إياها. هل هنالك مشهد أوضح من ذلك؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
807