حوار مع المفكرة السياسية شانتال موف

حوار مع المفكرة السياسية شانتال موف

تشهد القارة الأوروبية صعوداً لحركات سياسية يسارية جديدة، الأمر الذي تجسد بارتفاع حظوظه وحضوره في الاستحقاقات الانتخابية التي كانت - حتى الأمس القريب- حكراً على القوى والأحزاب التقليدية المتناوبة على الحكم، تحت اليافطات العريضة لـ«اليسار- واليمين» التي لم تعكس بالضرورة الهوية الحقيقية لهذه القوى.

 

يوظف اليسار الصاعد في أوروبا، بما في ذلك ما نشهده مؤخراً في فرنسا، من خلال تقدم المرشح اليساري، جان لوك ميلانشون، جملةً من الرؤى والممارسات في تكوين مختلف عناصر الخطاب السياسي الهادفة إلى استقطاب أكبر شريحة ممكنة من الناخبين. وتعتبر الباحثة الأكاديمية، شانتال موف، واحدة من المنظرين لهذه الرؤى. ونظراً لضرورة الاطلاع على ماهية هذه الرؤى، تعرض «قاسيون» فيما يلي لقاءً صحفياً أجرته صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية مع الباحثة شانتال، دون أن يعني ذلك التبني والموافقة على كل ما ورد فيها، على أن النص الكامل لهذا اللقاء سيكون متوفراً على موقع «قاسيون» الإلكتروني. 

في مواجهة الهيمنة النيوليبرالية، تقترحين ضرورة تحديد استراتيجية سياسية جديدة لليسار...

قبل مناقشة التوجهات الاستراتيجية، يجب علينا أن نحلل الظرف الراهن. إنني أعتمد على ميكيافيللي الذي، وكما أشار لوي ألتوسر، يهتم دائماً بالحالة الظرفية. أحاول أن أفهم مسائل اللحظة الراهنة، وعلى أساسها أحاول أن أبني منظوراً، ولهذا السبب، فإنني أعارض الفلسفة المعيارية )أي الفلسفة التي تطلق معايير حول ما يجب أن يكون(. فالفلاسفة السياسيون يميلون إلى القيام بتنظيرات كبيرة لشرح الكيفية التي ينبغي للعالم أن يكون عليها، دون أخذ السياق بعين الاعتبار. لكن من جهتي، فإني أحاول عوضاً عن ذلك أن أطوِّر نظرياتي اعتماداً على وقائع الحقبة الزمنية الراهنة.

تحليلي هو: أننا نعيش الآن في «لحظةٍ شعبوية»، والتي تتجسد بظهور الحركات السياسية التي توسم بهذا الاسم. علينا أولاً أن نوضح ماذا أعني بـ«الشعبوية». فعلى لسان معظم السياسيين والمعلقين، تظهر كلمة «الشعبوية» كمرادف لكلمة «الديماغوجية». كما أن تهمة «الشعبوية» تستخدم كسلاح بيد أولئك الذين يريدون الإبقاء على الوضع القائم على ما هو عليه «الستاتيكو»، ضد أولئك الذين يتحدون الوضع القائم.

ومن جهتي، فإني أتبنى وجهة نظر الكاتب أرنستو لاكلو، الذي أوضح في كتابه «منطق الشعبوية» أن الشعبوية ليست أيديولوجية أو عقيدة، إنما وسيلة لإرساء حدود سياسية أو للفرز السياسي. بالنسبة لي، فإن السياسة هي دائماً أداة لإقامة الحدود بين «نحن» و«هم»، ومن الممكن أن يتم بناء هذه الحدود بأشكالٍ مختلفة جداً. فبالنسبة للماركسيين، على سبيل المثال: إن الحدود هي بين «البروليتاريا» و«البرجوازية». وبالنسبة للشعبويين، فإن هذه الحدود هي بين من هم «فوق» ومن هم «تحت»، بين «الشعب» و«المؤسسة». ما الذي يفسِّر «فوران» هذه التحركات «المناهضة للنظام»؟ قبل كل شيء، وبطرق مختلفة، إنها ردود فعل رافضة لما يسميه البعض بـ«ما بعد الديمقراطية». اليوم نرى الديمقراطية مفرغةً من مضمونها بعد أن انقطعت عن السيادة الشعبية. لقد تم استبعاد السيادة الشعبية من المفردات السياسية، لأنها تمثل عدواً رئيسياً للنيوليبرالية التي تريد إقامة سيادة السوق والتكنوقراط، إنّ هذه الهيمنة النيوليبرالية تثير ثورة المزيد والمزيد من المواطنين. ولقد كان واحداً من الشعارات التي رفعتها حركة مناهضة التقشف في إسبانيا هو: «لدينا تصويت، لكننا لا نملك أصواتاً». هذا ما أطلق عليه في كتابي «وهم الإجماع» بما بعد السياسة.

بالنسبة لي، يجب على الديمقراطية أن تملك طابعاً جدلياً صراعياً، أي أن تتوفر إمكانية الاختيار بين مشاريع مختلفة، فحيث لا يوجد فارق جوهري بين البرامج السياسية المقدمة من أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، فسيجري تصويت، لكن لن يكون هنالك أصوات، لأنه لا توجد إمكانية حقيقية للاختيار. لقد سيطر «إجماع الوسط» هذا على المشهد السياسي في أوروبا، على مدار العقود الأربعة الماضية. والحركات التي تسمى «شعبوية»، والتي في معظمها من الجناح اليميني، قد كسرت وهم الإجماع هذا. ويجب الاعتراف بأن هذه الحركات تريد إعادة إنتاج الديمقراطية، لكن من خلال وضعها في إطار التقاليد القومية-العرقية التي لا تتوافق مع المُثل اليسارية.

يدافع اليسار عن السيادة الشعبية، لكن من أجل تعزيز المثل العليا للمساواة والعدالة الاجتماعية. إن استراتيجية اليسار يجب أن تأخذ على محمل الجد هذا الطلب على الديمقراطية لسلسلة كاملة من الفئات الاجتماعية، التي لا تقتصر على الفئات الشعبية، الذين يشعرون بأن لا صوت لهم. وللقيام بذلك، يجب على اليسار أن يتزود بمفرداتٍ تسمح بصياغة مطالب استعادة السيادة، لكن في إطار خطاب مغاير للشعبوية اليمينية، ذات الطابع القومي-العرقي.

وباختصار: إذا أراد اليسار إعادة إنتاج الديمقراطية، فعليه أن يطوِّر شعبويةً يساريةً.

ما هي أوجه الاختلاف بين الشعبوية اليمينية، والشعبوية اليسارية؟ إذ أن مارين لوبان تطالب أيضاً بالعدالة الاجتماعية...

نعم، ولكن فقط للمتحدرين من القومية الفرنسية. هنا يكمن الفرق الكبير! إن الفارق الجوهري بين الشعبوية اليسارية والشعبوية اليمينية يكمن في كيفية تشكيل الشعب؟ فالسكان هم فئة سوسيولوجية لكن على العكس تماماً، الشعب هو فئة تم تشكيلها، إنه فئة سياسية. الطريقة التي تشكل فيها مارين لوبان الشعب، تختلف كثيراً عن الطريقة التي يشكل فيها جان لوك ميلانشون الشعب.

تعتبر كل أفكاري جزءاً من المنظور النظري الذي طورناه، أرنستو لاكلو وأنا، في كتاب «الهيمنة واستراتيجية اشتراكية» الذي صدر في عام 1985، والذي أثّر بشكل كبير في حزب «بوديموس» الإسباني. في هذه التجربة، انتقدنا ما سميناه المفهوم «الجوهراني essentialist» للسياسة. لقد كتبنا هذا الكتاب لأن كلاً من اليسار الديمقراطي الاجتماعي واليسار التقليدي، أبديا عجزاً في فهم خصوصية الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تطورت منذ أيار 1968.

خلال معالجتنا لهذه المرحلة، أدركنا أن هنالك مشكلةً ذات طابع نظري: فلم يكن ممكناً تفسير هذه الصراعات الجديدة في حدود الصراع الطبقي. ثمة أشكال متعددة لـ«الجوهرانية essentialism»: تعتمد الماركسية على «جوهرانية طبقية»، حيث تعتمد الهويات السياسية على موقع الفاعل الاجتماعي في إطار علاقات الإنتاج التي تحدد وعيه.

وفقاً لما كتبناه أنا ولاكلو، لا توجد هوية سياسية محددة مسبقاً، فالـ«نحن» في السياسة لا توجد قبل تشكلها. الـ«نحن» في الاستراتيجية الشعبوية اليسارية ليست تمثيلاً لمصالح جماعية موجودة مسبقاً. توجد مطالب ديمقراطية متعلقة بالمصالح الاقتصادية، ولكن هنالك أيضاً سلسلة أخرى كاملة من المطالب الديمقراطية ليست ذات طابع اقتصادي. ومن المهم فدرلة مجموعة من المطالب المتنوعة والمتباينة، والتي يمكن أن تتصارع مع بعضها البعض، كي تخلق إرادةً جمعيةً، كي تخلق «نحن». تكمن الصعوبة في خلق «نحن» تعترف بالاختلافات. إن تصور الشعب بالنسبة لليمين ولليسار متباين. الشعب بالنسبة لمارين لوبان ليس متجانساً، ولكنها تقوم بفدرلته من خلال خلق «نحن» تتعرف وتتحدد بالاختلاف مع الـ«هم»، أي المهاجرين.

تتعرف وتتحدد الـ«نحن» دائماً بالعلاقة مع الـ«هم». لكن الـ«هم» ليست بالضرورة اللاجئين. من الممكن أن تكون الـ«هم» أي شيء آخر، كقوى النيوليبرالية مثلاً. إن الفارق الجوهري بين شعبوية اليسار وشعبوية اليمين المتطرف، يكمن في طبيعة الـ«هم». وبكل الأحوال، فإن الـ«نحن» والـ«هم» لا تمثل أبداً المصالح الموجودة. فهمت حركة «بوديموس» ذلك جيداً، ولم توجه خطابها فقط إلى الذين يصوتون لليسار أو يعتبرون أنفسهم يساريين. بل تسعى الحركة أيضاً إلى إقناع الناخبين من الحزب الشعبي (حزب اليمين التقليدي)، وتسعى لخلق إرادة جماعية، لخلق «نحن» ذات طابع عابر للفئات الاجتماعية.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
806