بولندا: العسكرة الأمريكية والنهب الأوروبي
تجري اليوم عملية نهب اقتصادية منظمة لبولندا، بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي، كما يجري استخدامها كمطية سياسية وعسكرية للتوتير السياسي في أوروبا الشرقية، بصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي «الناتو».
في تصعيد أمريكي جديد في أوروبا الشرقية، استقبلت بولندا بتاريخ 13 كانون الثاني عدة آلاف من الجنود الأمريكيين، بالإضافة إلى دباباتٍ ومعدات ثقيلة، في إطار عملية مقررة لحلف شمال الأطلسي، لزيادة قواته لدى الدول الأعضاء، في شرق أوروبا، وهو ما أغضب الجانب الروسي الذي قال: إن وجود القوات يمثل تهديداً لروسيا وأمنها القومي.
حشود أمريكية جديدة
وصلت أكبر تعزيزات عسكرية أمريكية في أوروبا منذ عقود، وقوامها نحو 2700 جندي من جملة العدد المقرر وهو 3500، في إطار عملية تهدف إلى أن تُظهر واشنطن لموسكو، أنها لا تزال قادرةً على تنفيذ التزامها اتجاه حلفائها الذين لا يبدون اليوم مستوى الحماسة ذاته، للانخراط في المشاريع الأمريكية.
وقال الكولونيل بالجيش الأمريكي، كريستوفر آر. نوري، قائد مجموعة القتال بالفرقة الثالثة المدرعة، في مراسم استقبال بمدينة زاغان بغرب بولندا: «الهدف الرئيسي لمهمتنا هو الردع ومنع التهديدات». وتقول دول حلف شمال الأطلسي: إن نشرها المزمع لقوات في الدول الشرقية بالحلف، ذو طابع دفاعيّ محض، لكن روسيا انتقدت ما تعتبره حشداً غربياً عدوانياً في شرق أوروبا.
وبالإضافة إلى القوات الأمريكية الذاهبة إلى بولندا، ترسل ألمانيا وكندا وبريطانيا، وهي دول أعضاء بالحلف أيضاً، كتائب يصل قوام كلّ منها إلى ألف جندي، إلى إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وهي جمهوريات سوفيتية سابقة.
كما تردد النخب الحاكمة: أن بولندا وجمهوريات البلطيق، طلبت نشر قواتٍ أمريكية، بسبب خوفها من العمليات الروسية في المنطقة، في الوقت الذي لا تشهد المنطقة سوى عملياتٍ استفزازيةٍ أمريكيةٍ في أوروبا الشرقية كاملة.
من جهته، أكد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو: أن موسكو لا تعتزم الانسياق إلى سباق تسلحٍ جديد، لكنّها ستحافظ على المستوى الحالي لأمنها العسكري. وأكدت موسكو: أن الوجود الأمريكي قرب حدودها يهدد الأمن القومي الروسي، ويزعزع الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن تهديده منظومة الأمن الأوروبي.
الأجور والفقر والبطالة
جاء في التقارير التي أعدها البنك الدولي، حول بولندا سنة 2014: «إن الاقتصاد البولندي نما بنسبة 81% بالأسعار الحقيقية بين عامي 1990 و2010»، ويضيف التقرير نفسه: إن الفجوات بين أشد المناطق فقراً وأشدها ثراءً ما زالت في اتساع. وما زال الفقر مسألةً حقيقيةً وخاصةً للأُسَر التي لديها عدد كبير من الأطفال وللشباب وكبار السن، والأسر الريفية ذات الدخل المنخفض.
إن اتساع الفجوات بين المناطق الفقيرة والثرية، يجعل رقم النمو ذا الـ80% يتبخر، ولا تتعدى قيمته الفعلية أكثر من مجرد كذبة ورقية، حيث نتج عن أزمة 2008 ركود اقتصادي في بولندا، كما حدث في كثيرٍ من البلدان الأوروبية. وتضاعف معدل البطالة بين عامي 2010- 2014 إلى 14%. وحوالي 26% من الأسر البولندية تقول: إن دخلها المنتظم غير كافٍ لسداد احتياجاتها، في حين أن نحو 63% من الأسر ليس لديها أية مدخرات، وفقاً لبحث أجرته جمعية الإحصاءات البولندية، ووفقاً لتقارير البنك الدولي نفسه.
يبلغ متوسط الأجور الشهرية في بولندا، 1500 زلوتي «500 دولار» ينفق كله تقريباً على التدفئة والطعام والاحتياجات الأساسية، وبدَلَ رعاية الأطفال. ويواجه الشباب البولنديون أيضاً، ارتفاعَ البطالة، وحين يجدون وظيفة فإنها تكون بموجب عقد مؤقت، براتب ضعيف للغاية أو يعملون جزءاً من الوقت. فحوالي 27% ممن يعملون هم يشتغلون وفق عقود مؤقتة بسبب تدني الرواتب، وعدم الاستقرار الوظيفي، مما يجعلهم يواجهون خطراً أعلى للوقوع في براثن الفقر. وهذه النسب أعلى بكثيرٍ بين النساء والشباب.
وتواجه أوروبا الشرقية كمنطقة، مشكلة فريدة، بسبب طول فصول الشتاء وقسوتها. ويعني ذلك أنه على الأسرة أن تدفع الكثير للبقاء في دفء، وتناول ما يكفي من طعام للبقاء على قيد الحياة، في ظل هذه الأوضاع القاسية، مقارنةً بالمناطق الأخرى من العالم الأكثر دفئاً. وتضاف هذه التكاليف إلى الأساس اليومي، وبالتالي فإن 2.5 دولار يومياً للفرد، لا تكفي غالباً. ما يجعل الكثير من هذه الأسر تعيش في حالة فقر.
«البُعبع» في الشرق
ينبغي أن ننظر إلى العمليات العسكرية الجارية اليوم، في ضوء المصالح الجيوسياسية لبعض البلدان. ومثل هذا التحليل يقودنا إلى فهم حقيقة، أنه تم استخدام الأزمة في أوكرانيا كذريعة لتغيير جذري في سياسة الناتو، وللحشد العسكري، ففي ظل الظروف الأمنية الحالية، الناتو يشعر بعدم الارتياح دون وجود خصم رئيس.
تاريخياً، أدت العمليات العسكرية للناتو بعد الحرب الباردة إلى نتائج سلبية. في البلقان وفي ليبيا كانت كارثية. وقامت دول حلف شمال الاطلسي بالمشاركة في تدمير مؤسسات الدولة العراقية.. إلخ.
تم نشر قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان لمدة 12 عاماً، لكن النتائج تثير الكثير من الأسئلة، وهناك مخاوف جديةٌ حول القدرة على ضمان الاستقرار هناك. ومن الواضح أن هناك اتجاهاً سلبياً (يتزايد عدد الأقاليم التي تسيطر عليها طالبان، ويتعزز نفوذ تنظيم «داعش»). وبالنسبة لروسيا، فهذا خطرٌ أمنيٌ واضح، لأن الإرهابيين والمتطرفين المتسللين إلى المحافظات الشمالية من أفغانستان، يخلقون تهديداً مباشراً لتحالف منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
حتى قبل الأزمة في أوكرانيا، شكك خبراء غربيون، بقدرة حلف الناتو على البقاء وثيق الصلة في الوضع الأمني الحديث. واليوم نرى أنّ «صورة العدو» يتم استخدامها في حل المشكلات الجيوسياسية الأخرى (عودة حلف شمال الأطلسي إلى مركز السياسة العالمية، في محاولة لإثبات أنه ليس هناك أية وسيلة لضمان أمن الآخرين، إلا من خلال تعزيز الروابط عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة)، ولذلك، هناك حاجة إلى خصم كبير، وهذا ما يفسر الدعاية الغربية ضد روسيا، التي تشكل خصماً حقيقياً للهيمنة الأمريكية، لكن ليس للشعوب الأوروبية كما يجري الترويج. إن تصوير روسيا كـ«بُعبع» يريد أن يهيمن على مقدرات الشعوب الأوروبية ليس موجهاً ضد روسيا بحد ذاتها، إنما الهدف الأول منه، كما هو واضح، قمع وسجن الشعوب الأوروبية ذاتها ضمن قوالب الهيمنة التي يحاول الأمريكي، وحلفاؤه وتابعوه من كبار رؤوس الأموال في أوروبا، الحفاظ عليها بأي ثمن ممكن، حتى لو كان تعريض أوروبا ذاتها إلى مخاطر التفكك والانهيار..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 795