الاستراتيجية ثابته، والتكتيكات تتغير
الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 كانت آخر أكبر محاولات تصدير الأزمة التي تعيشها الامبريالية الأمريكية الى الخارج . انتهت الحرب بالخروج الأمريكي من العراق.
من وجهة نظر غالبية صناع الاستراتيجية الأمريكية كانت الحرب ضرورة لتأجيل انفجار الأزمة اذا توافر شرطان: أن تكون الحرب خاطفة – أن يكون الانتصار ساحقا.
بلغ النزق أقصى حدوده بتصورات وأوهام عن التكلفة الهزيلة للحرب، وعن باقات الزهور والأحضان التي ستكون في انتظار قواتهم. ولم يؤخذ برأي قطاعات واسعة من العسكريين ذوي الخبرة، الذين أكدوا أن القوة العسكرية الأمريكية تراجعت عن ذي قبل، وأنها لا تستطيع تلبية الشرطين المطلوب توافرهما لتحقيق الهدف.
العقل الاستراتيجي السائد في الولايات المتحدة مسكون بغرور القوة والتفوق العسكري. لذلك فقد أمضت أمريكا ستّين عاما منذ الحرب العالمية الثانية في أوسع استنزاف للموارد والاقتراض الجنوني ، من أجل تأسيس وتوسيع «المجمع العسكري الصناعي» وتحويله لأساس للحياة الاقتصادية الأمريكية . حيث تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب في خدمة هدف التوسع الأمبراطوري . وأصبحت القوة العسكرية بمثابة استثمار اقتصادي .
تواكب مع ذلك تلك التحولات التي جرت في بنية الاقتصاد الأمريكي نحو سيادة الاقتصاد المالي (الوهمي) . أي بلوغ الاقتصاد أقصى درجات «الطفيلية» .
تكلفت الحرب على العراق 2 تريليون دولار. وأستفاق الأمريكيون على دوي الأزمة . بلغت الديون أكثر من 14 تريليون دولار، منها 5 تريليونات للخارج ( 3 ر1 تريليون للصين – 969 مليار لليابان – 280 مليار لمشيخات النفط قي الخليج – 262 مليار لبريطانيا – 261 ملياراً للبرازيل ) . وأنتجت الأزمة حسب إحصاءات 2007 هبوط حوالي 48 مليون أمريكي الى ما تحت خط الفقر- 45 مليونا دون ضمان صحي – 35 مليون يعيشون على الاعانات – 12 مليون دون سكن ) . أي أن ما يقارب نصف السكان يعيشون في محنة في أكبر بلد رأسمالي .الى جانب اعتراف وزارة العدل الأمريكية بأن نسبة السجناء هي الأكبر بالنسبة لعدد السكان على مستوى العالم ( 26ر2 مليون سجين) اضافة الى تفاقم الجريمة بشكل لا مثيل له عالميا.
هكذا نشأ وتفاقم التناقض بين: تراجع القوة العسكرية التي رصدها الخبراء العسكريون، وما أصاب القوة العسكرية من ضعف قياسا على الماضي، وبالتوازي تفاقم الأزمة الاقتصادية وما أصاب البنية الاقتصادية من وهن وضعف لا شفاء منه .. وبين: الطموحات للتوسع وتلبية تلك الطموحات كالسابق. وذلك في عالم برزت فيه أقطاب صاعدة تملك حيوية هائلة . وفي ذات الوقت امتدت الأزمة بشكل خانق الى أوربا أقرب الحلفاء.
لم يغير الواقع الجديد أسس وجوهر الاستراتيجية الأمريكية . لكن جرى تغيير التكتيكات وأساليب العمل. غير أن تغيير الأساليب والتكتييكات لا يعني طي صفحة وبدء صفحة. اذ تتداخل وتتشابك المراحل القديمة والجديدة. أي أن عناصر من المرحلة السابقة تدخل نسيج المرحلة الجديدة ولو بقدر من التعديل والتطوير. كما تولد عناصر المرحلة الجديدة في قلب الوضع القديم .
***
حينما دخلت الولايات المتحدة مرحلة التوسع الخارجي ابتكرت أسلوب « التبرير» لاستخدامه في حروبها التوسعية . لجأت الى «التبرير» لشن حرب على أسبانيا بهدف الاستيلاء على كوبا ، إذ قامت باصطناع واقع على الأرض تتغلب به على معارضي الحرب وتسعير هياج الرأي العام للحصول على تأييده ، حيث نفذ البنتاجون عملية إغراق مدمرة أمريكية وقتل عدد كبير من طاقمها ، ونسب الواقعة الى أسبانيا . وهذا ما جرى تماما لتبرير دخولها الحرب العالمية الأولى. ثم الحرب على فيتنام . كما كانت وراء ضرب برجي مركز التجارة العالمي لتبرير الحرب على أفغانستان ... وهكذا . وكان افتعال موضوع أسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق .
مؤخرا وضعت الولايات المتحدة « حقوق الانسان» إلى الصدارة لتبرير تدخلها العسكري، رغم سجلها الأسود بالنسبة في هذا الأمر. اذ أنها واحدة من دولتين لم توقعا على المعاهدة الدولية لحقوق الطفل. وهي الدولة الغربية الوحيدة التي تعارض بيان الأمم المتحدة عن الحق في التنمية. كما لم توقع على المعاهدة الدولية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أصدرتها الأمم المتحدة بعد نضال مرير خاضته قارة افريقيا لإصدارها.
على مستوى الداخل الأمريكي توجد ترسانة من القوانين المنافية لحقوق الانسان الأمريكي. منها قانون يعطي الجيش الأمريكي الحق في اغتيال أي مواطن لمجرد الاشتباه في ضلوعه في أعمال إرهابية – قانون يسمح بقتل أو اعتقال أي أمريكي يتم تصنيفه على أنه ارهابي – قانون يعطي الرئيس الأمريكي الحق في أن يقرر ارسال أي من المتهمين ليحاكم أمام محكمة فيدرالية عسكرية دون ابداء الأسباب – قانون يمنح الحكومة الأمريكية الحق في اعتقال ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية دون الإفصاح عن القرائن بحجة حماية الأمن القومي – قانون يسمح بفرض المراقبة على الأشخاص دون إخطار.
ويدافع القضاء الأمريكي عن هذه القوانين بحجة أنها حق للدولة في انتزاع الشرعية من مواطنيها في حال تشككها فيهم.
لقد اتخذت الولايات المتحدة التي تدمر دولا وتقتل الملايين من شعوبها . اتخذت من حقوق الانسان أداة إكراه سياسي ومعنوي لكسر الإرادة الوطنية ، وخلق واقع مصطنع لتبرير التدخل العسكري في نهاية المطاف.
اذاً. فان التدخل العسكري الذي يتوج مسعى تحقيق الاستراتيجية الأمريكية، والذي ثبت فشله بصيغته القديمة مؤخرا تطلب ضرورة الاستعانة (إضافة الى التبرير ) توفير عناصر وأدوات أقل كلفة ، تتمثل في أربعة عناصر: تمويل واسع متعدد المصادرلخدمة الهدف الواحد – تجنيد مجموعات متعددة المشارب والمنابع الفكرية تحت لافتات عديدة ، وإعدادها للتحرك بقوة في البيئة الداخلية – توفير أدواتٍ إعلامية قوية وعديدة تضخ للرأي العام قصفاً مركزا بما يمهد للمجموعات السابق إعدادها للتحرك بسهولة وفاعلية – وأخيرا قيادة توجه وتنسق الحركة وتبرزها زيفا باعتبارها حراكاً سياسياً طبيعياً.
تمثل العناصر المذكورة تحت مظلة «التبرير» المقدمة لصياغة «حروب القرن 21 »فهي بمثابة الفوج الأول لقوات تتولى خلخلة واضعاف الدفاعات الداخلية في البلد المستهدف من خلال تزييف الوعي والتلاعب به بالإعلام لخلق تناقضات مصطنعة ، وإيقاظ وتسعير تناقضات ثانوية نائمة ونحويلها الى تناقضات رئيسية وعدائية ، وإشاعة معلومات كاذبة ، وبث الفتن وزرع الفوضى.
وتلي ذلك المرحلة الثانية من الهجوم بعمليات مخابراتية سرية تواصل القصف التمهيدي المكثف.
المرحلة الثالثة يجري خلالها تطوير الهجوم اعتماداً على ما تم إنجازه في المرحلتين السابقتين، بعد أن تكون الدولة المستهدفة بالهجوم قد تجاوزت مرحلة «الخلخلة» إلى مرحلة «الهدم»، وتم صياغة الواقع المصطنع للتدخل العسكري.
هل نرى ملامح ذلك راهنا في مصر، وفي سورية. في ارتباطه المباشر بالهجمة الأمريكية؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543