الرأسمالية الأمريكية في أزمتها تهاوي أسعار الأسهم الأمريكية.. وفضائح الفساد

مع تهاوي أسعار الأسهم الأمريكية في البورصات العالمية، ومع امتداد فضائح الفساد في الشركات الكبرى الأمريكية، تتفاقم الأوجه الاقتصادية والسياسية والحزبية والاجتماعية لأزمة الرأسمال الأمريكي، دون أن تمهلها أو تنفعها كثيراً فيما يبدو المخارج التي حاولها البيت الأبيض من خلال ضربه لأفغانستان في الفترة التي أعقبت أحداث أيلول الأمريكية والتي كانت بدورها محاولة لإيجاد مخرج شامل ومبرر من هذه الأزمة.

ويبدو، أن مايزيد الطين بلة بالنسبة للرأسمال الأمريكي المأزوم ليس فقط أن الأمور في العالم، ورغم كل الاختراقات التي حققها ولاسيما باتجاه قزوين، لا تسير على هواه تماماً، بحكم التنافس الإقليمي والدولي، بل إن كثافة تكشف مفرزاته الداخلية بات يشكل عائقاً جديداً…
ويبدو الآن أن سيناريو توجيه ضربة جديدة للعراق، وتحت مسوغات مختلفة ولتحقيق غايات مختلفة ومتعددة المستويات دولياً وإقليمياً، يُراد منه بشكل رئيسي أن يشكل مخرجاً عسكرياً وسياسياً من أزمة الإدارة الأمريكية واحتكاراتها، وكما دائماً على مبدأ «تصدير الأزمة»…
وبالملموس فإن ما شهدته الولايات المتحدة مؤخراً يؤكد أن تجاوز العوائق والمفرزات التي يواجهها الرأسمال الاحتكاري الأمريكي بات يتطلب الاصطدام حتى مع أبسط المعايير والمفاهيم الرأسمالية…

ففي العاشر من الشهر الجاري وبأغلبية 96 صوتاً ودون معارضة أقر مجلس الشيوخ الأمريكي «الإصلاحات» التي أعلن عنها الرئيس جورج بوش من أجل استعادة ثقة المستثمرين الداخليين والخارجيين بعد سلسلة الفضائح المالية التي هزت البيت الأبيض والشركات الكبرى الأمريكية من «أنرون» للطاقة و«وورلدكوم» للاتصالات إلى «هالبيرتون» للمعدات النفطية…
وينص الإجراء الذي يندرج ضمن ما أسماه بوش «ميثاق شرف جديد» لمسؤولية الشركات، بعيداً عن نظام انضباطها الذاتي، على مضاعفة العقوبات بالسجن بحق رؤساء الشركات الذين تثبت إدانتهم بالفساد، وقد يصل بعض هذه الأحكام إلى فرض غرامة بقيمة مليون دولار وعشر سنوات سجن بحق كل رئيس مجلس إدارة شركة أو مدير مالي أو رئيس شركة يقدم عشوائياً معلومات خاطئة للجنة عمليات البورصة…

غير أن مشكلة بوش ومجلس شيوخه وإجراءاتهما تكمن في أن «دود الخل منه وفيه» إذ أن البيت الأبيض القريب تقليدياً من أوساط المال يضم اليوم واكثر من أي وقت مضى عدداً كبيراً من الرؤساء السابقين لشركات تعمل خصوصاً في قطاع النفط بمن فيهم الرئيس بوش نفسه الذي يُتوقع أن تطاله تحقيقات قضائية بخصوص بيعه قبل 12 عاماً وبمعرفته الكاملة أسهماً خاسرة كان يمتلكها في شركة نفط تكساسية أسسها في عام 1972 مستغلاً في الفترتين كليهما صلاته العائلية سواء في القطاع النفطي أو من خلال وصول أبيه للبيت الأبيض خلفاً لريغان في الثمانينات…
وبعد توليه سده الرئاسة أبقى بوش الابن علاقاته الوثيقة مع مسؤولي الصناعة النفطية ومنهم المسؤول السابق عن شركة أنرون التي أعلنت إفلاسها في مطلع العام وكانت باكورة سلسلة الفضائح…

كما سبق لنائب بوش، ديك تشيني «المتشدد» أن تولى رئاسة مجلس إدارة هاليبرتون النفطية في تكساس أيضاً بين عامي 1995-2000، ووضع منذ ذلك الحين منطقة قزوين ونفطها نصب عينيه صراحة، وليصبح الآن متهماً من قبل المعارضة الديمقراطية بأنه يمثل مصالح الصناعة النفطية في الإدارة الأمريكية عبر اللجنة الفيدرالية التي يترأسها، وهو الذي بات أيضاً عرضة لدعوى قضائية من قبل مؤسسة اجتماعية تتهمه بالتزوير والاحتيال عندما كان رئيساً للشركة المذكورة، ولكن البيت الأبيض يرفض الدعوى.

وبالمثل فإن وزير الخزانة بول أونيل ثالث مسؤول كبير في إدارة بوش كان رئيس مجلس الإدارة في /إلكوا/ إحدى أكبر شركات صناعة الألمنيوم، وقد بات مضطراً في تعليقاته للدفاع عن «عبقرية النظام الرأسمالي» كون «الشركات تأتي وتذهب» بحسب تعبيره التبسيطي…
الديمقراطيون الآن وقبيل الانتخابات التشريعية الأمريكية في تشرين الثاني المقبل باتوا يتحدثون بخطب بلاغية عن «مصالح الكادحين الشرفاء» في معرض اتهامهم الجمهوريين، ولاسيما بوش وتشيني، بالعمل من أجل تحقيق مصالح الشركات التي مولت حملتهما الانتخابية في عام 2000 على حساب عمال ومستثمرين من كبار السن فقدوا مدخرات التقاعد نتيجة تهاوي أسعار الأسهم وفقدان الثقة الخارجية بالاقتصاد والأسواق الأمريكية، واضعين الرجلين كليهما في حال الدفاع عن النفس لأول مرة منذ أحداث أيلول…

أما بوش، الحاصل على درجة  الماجستير في إدارة الأعمال والمدير التنفيذي السابق للشركة المذكورة أعلاه، فقد تخلى عن نظام الانضباط الذاتي للشركات الذي طالما تغنى بمزاياه وأراده نموذجا يحتذى حتى داخل أجهزة الحكومة الأمريكية، وهو نظام يقوم على مبدأ مفاده أنه كلما قلت اللوائح الحكومية كان أفضل.
غير أن بوش ذاته بات يلجأ إلى قوانين تفعّل من تدخّل الدولة في الاقتصاد وشؤون القطاع الخاص وتستدعي زيادة مخصصات لجنة الأوراق المالية والبورصات في مجلس الشيوخ بمقدار 100 مليون دولار، وبلغ به الأمر في ظل التنافس الخارجي ولاسيما مع أوربا وتشعبات الحماية الجمركية التي تفرضها إدارته خلافاً لمبادئ التجارة العالمية الحرة التي تتبناها واشنطن براغماتياً إلى حد طرح مشروع قانون آخر في مجلس الشيوخ من شأنه تعزيز سلطة الرئيس للتفاوض على اتفاقات تجارية جديدة…

وإذا كان أحد تجليات تصدير الأزمة هو افتعال أزمات وحروب في العالم فإن المفارقة الأكبر ربما تمثلت في أن جملة التغييرات التي يدخلها بوش مع إجراءات الحماية الاقتصادية الاجتماعية، أو استعارة ألفاظ معينة «كالكادحين ومصالحهم» المستلهمة من أنماط التنمية الاشتراكية التي قالت واشنطن أنها دفنتها للأبد منذ تسعينيات القرن الماضي وباتت تضغط على الآخرين للتخلي عنها، هي معطيات تصطدم بالمفاهيم والمتطلبات التي تمليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بنظمها ومفاهيمها الرأسمالية، وبالتنسيق مع المؤسسات المالية الدولية التي ترعاها هذه الإدارة لدول العالم الأخرى ولاسيما الثالث منها في وصفات ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي، تحت مسميات ومصطلحات فضفاضة، من السوق الحر إلى العولمة مروراً بالخصخصة، ولاسيما بخصوص تقليص الإنفاق الحكومي وكف يد الدولة وتخطيطها المركزي كلياً عن التدخل في الاقتصاد وتقديم القروض المشروطة بدعم القطاع الخاص ومنع تدخل الحكومات بعمله ولوائحه الخاصة، مع كل ما يتضمنه كل ذلك من منعكسات اجتماعية واقتصادية هيكلية تضر بمصالح شعوب البلدان المستهدفة.

وفي كل الأحوال، وإذا كانت حقيقة كون ممثلي احتكارات النفط الأمريكية الواقفين في قمة الهرم السياسي الأمريكي باتت تقترن مع كل الأزمات المفتعلة في غير مكان في العالم ضمن سيناريوهات تستدعي تدخلاً أمريكياً ولو عسكرياً، وهي الحقيقة التي تعد تكثيفاً سياسياً للمصالح الاقتصادية سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، فإن بعض الأمريكيين، وبغض النظر عن حسابات تنافسهم الحزبي، «أدرى بشعاب إداراتهم»، حيث قال النائب الديمقراطي تشارلز رانجل عضو لجنة موازنة الضرائب والميزانية في مجلس النواب الأمريكي: «إن الفصل بين صورة الفساد في الشركات وهذه الإدارة يحتاج لأكثر من خطاب بوش (وإجراءاته التي وافق عليها الكونغرس) إذ أن هناك تحالفاً غير مكتوب بين الشركات وإدارة هذا الرئيس…» وربما كان حرياً برانجل القول: إن الفصل بين أي إدارة أمريكية وأي شركات داعمة لها صعب، كصعوبة خروج الرساميل والسياسات الأمريكية من أزماتها الدورية وتفاقمها رغم كل محاولاتها الخروج منها…

معلومات إضافية

العدد رقم:
179