كلاسيكية الأوربيين ورومانسية الأرجنتينيين وثورة المقهوريين.. كروياً!

في الصفحات الأولى من كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» يتحدث غاليانو صاحب «الشرايين المقطوعة لأمريكا اللاتينية» و«ذاكرة النار»، تحت فقرة عنونت بـ «الاكتشاف الثاني لأمريكا» قائلاً : «في عام 1924، كانت تلك هي المرة الأولى التي يلعب فيها فريق أمريكي لاتيني في أوروبا، حيث تواجهت أرغواي مع يوغسلافيا في المباراة الأولى. لم يكد يحضر تلك المباراة أكثر من ألفي متفرج. وقد عُلّق علم الارغواي بالمقلوب، فكان رسم الشمس إلى أسفل، وبدلاً من نشيد الأرغواي الوطني عُزف مارش عسكري برازيلي. وفي ذلك المساء، هزمتْ الأرغواي يوغسلافيا 7/صفر.

عندئذ حدث شيء أشبه بالاكتشاف الثاني لأميركا. فمباراة بعد أخرى كانت الحشود تتجمع لرؤية أولئك الرجال الزلقين مثل السناجب الذين يلعبون الشطرنج بالكرة. لقد كانت المدرسة الإنكليزية قد فرضت أسلوب التمريرات الطويلة والكرات العالية، ولكن هؤلاء الأبناء المجهولين الذين أنجبتهم اللعبة في أميركا النائية، لم يكونوا يقلدون الأب. لقد كانوا يفضلون ابتداع كرة قدم ذات كرات قصيرة وموجهة إلى القدم مباشرة، مع تبدلات خاطفة في الإيقاع والمراوغة أثناء الركض. وقد نشر الكاتب الأرستقراطي هنري مونتثيرلانت حماسته: «إنها ثورة! هذه هي كرة القدم الحقيقية. أما ما نعرفه نحن، وما نلعبه نحن، فليس كرة قدم وهو لا يعدو أن يكون بالمقارنة مع هذا اللعب سوى لهو تلاميذ». والآن وبعد ما يزيد عن 70 عاماً، ها هو ذا العالم يكتشف قارتين كرويتين جديدتين هما إفريقيا وآسيا، ما الذي حدث؟.

لقد خلص الأمريكيون الجنوبيون كرة القدم الإنكليزية من كلاسيكيتها، فيما يشبه الثورة كما قال هنري مونتثيرلانت، إلاّ أن هذه الثورة عادت لتؤطر نفسها مع مرور الزمن في تاريخ الكرة الحافل بالكثير من الدراما، وغاليانو في كتابه عن التاريخ الحزين لكرة القدم يقول: «هي رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب. فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب. وفي عالم نهاية قرننا هذا- وبداية القرن الجديد  تستنكر كرة القدم الاحترافية ما هو غير مفيد، في عرفها هو كل ما لا يعود بالربح. وليس هناك أية أرباح تجنى حين يتحول الرجل، برهة، إلى طفل، يلعب بالكرة مثلما يلعب الطفل بالبالون ومثلما تلعب القطة بكبة خيوط صوفية: يصبح راقصاً يرقص بكرةٍ خفيفة مثل البالون الذي يطير في الهواء، لاعباً دون أن يدري أنه يلعب، ودون أن يكون هناك سبب أو توقيت أو حكم.
  لقد تحول اللعب إلى استعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين، إنها كرة قدم للنظر. وتحول هذا الاستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم، لا يجري تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب. لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة».

لقد حولت صناعة كرة القدم لاعبين كثراً على مر الزمن من لاعبي )الفن للفن) إلى موظفين هدفهم من اللعب هو المال بالدرجة الأولى، وبناء لاعبي ستريو بورد  فتحول لاعبو فرقهم الأوروبية الأكثر شهرة إلى كلاسيكيي دفاع وهجوم يشبهون راسين وكورنيه في المسرح، وتحول لاعبو أمريكا اللاتينية إلى رومانسيين في المسرح بعد أن كانوا ثورة غيرت خريطة كرة القدم في كل مكان، لقد تحولت فرق أمريكا الجنوبية إلى ستريو بورد و (super team) الذي لا يخسر أو الذي لا يحق له أن يخسر، ضمن تركيبة دراما كرة القدم العالمية.

«ومن حسن الحظ في الملاعب أنه مازال يظهر فيها، حتى وإن كان ذلك في أحيان متباعدة، وقحٌ مستهتر يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرمة».

إعادة اكتشاف أفريقيا وآسيا وكنوز جديدة
بعد ألماس أفريقيا ونفطها أضيفت في العام 1990 إلى أفريقيا مجموعة من المناجم والآبار الجديدة هي كرة القدم، مع فريق الكاميرون الذي قفز فوق الجميع، جاء إلى مونديال إيطاليا كما جاءت فرق أمريكا الجنوبية، ليس لديها ما تخسره، لتقتلع من أنياب الأرجنتين هدفاً في المباراة الافتتاحية، وتخسر بصعوبة أمام الإنكليز، لتتبعها نيجيريا في المونديال الذي تلاه وتهزم بلغاريا وتعذب إيطاليا كثيراً قبل خروجها من المونديال، ولم يطل الوقت كثيراً بالنسبة لعمر كرة القدم حتى جاءت السنغال في مونديال (كوريا واليابان) ، وتهزم بطل كأس العالم فرنسا وتتبعها بمجموعة من الهزائم لفرق كبرى، في أول مشاركة لها، قبل خروجها على أيدي أو أقدام الفريق  التركي.
إن هذه الاكتشافات لم تتوقف عند أفريقيا بل امتدت إلى آسيا، التي أنجبت (نموراً آسيوية في كرة القدم) يقول البعض عنها أنها (فتبول مؤتمت) أو كرة (قدم كومبيوترية) إلاّ أن لاعبي اليابان وكوريا الذين يلعبون على أرضهم وبين جمهورهم، بالرغم من كل الأقوال استطاعوا أن يصلوا إلى مراكز متقدمة ووصل الفريق الكوري الجنوبي ليضع قدمه بين أقدام الأربعة الأوائل في هذا المونديال، وكان اللاعبون بالرغم من كل الأدمغة الإلكترونية والبشرية التي تقف وراءهم، يركضون ويلهثون، ويرتقون وراء الركنيات كما يرتقي الألمان والإنكليز، ويقذفون كرات قوية كما يقذفها جنوبيو أمريكا، ويبكون عندما يهزمون أو عندما يربحون كما يبكي جميع البشر، عندما بدأوا كان حلمهم أن يفوزوا ولو مباراة واحدة في هذا المونديال، إلاّ أنهم حققوا المفاجآت.
أما الطموح التركي فقد كان حاضراً بقوة، وقد يرجع البعض هذه القوة إلى ما محاولات الأتراك بالإنضمام إلى الاتحاد الأوربي، أو إلى التعصب التركي الذي يستطيع تحقيق المعجزات، إلاّ أن الأتراك الذين جاهدوا لكي يصلوا إلى النهائيات، وبموضوعية تامة استطاعوا أن يثبتوا أن للطموح مكاناً في كرة القدم.

المارينز الأمريكي
في العام 1994 لم تكن هناك ملاعب لكرة القدم كالتي نعرفها في بلاد العم سام، بل كانت ملاعب كرة القدم الأمريكية  والبيسبول وغيرها من الألعاب الأمريكية، حولت عدداً من هذه الملاعب إلى استادات كروية لتحتوي مونديال 1994، ولم يكن يشاهد بين الجموع المحتشدة في الاستادات إلاّ قلة قليلة من الأمريكان في متابعة هذه اللعبة، والتي يقول البعض (أنها لم تتأمرك بعد)، ولابد لـ11 أيلول أن يرمي بظلاله على كرة القدم، فقد أثارت الموجة القومية التي اجتاحت أمريكا كل الشعب الأمريكي فأصبحت المباريات التي تجري في كوريا واليابان تحتل حيزاً من حياة المواطن الأمريكي الذي راح يتابعها بشغف، بالرغم من أن غالبية الشعب الأمريكي لا تعرف قواعد وقوانين هذه اللعبة، بل تشجعها كما تشجع المارينز الأمريكي المنتشر في كل أنحاء العالم، ولا يفرقون بين حَكَم الساحة وحارس المرمى.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فإن جزءاً من لاعبي الفريق الأمريكي هم من المارينز الذين جندوا في صفوف هذا الفريق من بين عدد من الرياضيين في ألعاب القوى لكي يشاركوا في هذا المونديال، مع أوامر بأن يحققوا نتائج في هذا المونديال ، بالإضافة إلى معسكرات تدريبية، هي الوحيدة من نوعها والتي تحمل معنى هذا الاسم، فالمعسكر الكروي الأمريكي هو معسكر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، معسكر مغلق ولا يحق لأي الدخول إليه، وتدريبات صارمة، أدت بالفريق الأمريكي إلى إحراز نتائج متقدمة، قد تشي بقدرة على تحقيق الكثير في مونديالات قادمة، بثنائية العقلية العسكرتارية الديمقراطية نفسها التي تحكم أمريكا.


الملايين تتكلم
ماذا نشاهد على شاشة التلفاز أو في الملاعب؟ هل نحن نشاهد بشراً أم ملايين تركض على الشاشة والعشب الأخضر، ليصبح التعليق على المباراة بالشكل التالي خمسة ملايين دولار تركض وراء الكرة لكن الثلاثة ملايين تصد الكرة، أوه لا 12مليوناً  تغادر الملعب، و16 مليوناً تدخل.

غاليانو مرة أخرى يحدثنا قائلاً :
اللاعب: «يركض لاهثاً على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار. رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال. وكلما نال شهرة أكبر، وكسب أمولاً أكثر، أصبح أسيراً أكثر. إنه يخضع لانضباط عسكري صارم، ويعاني كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكنات وتسلل الكورتيزون الذي يُنسيه الألم ويزيف حقيقة حالته الصحية. وعشية المباريات المهمة يحبسونه في معسكر اعتقال حيث يقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيداً. في المهن الإنسانية الأخرى يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره. لأن العضلات تتعب باكراً. وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلاً:

ـ هذا لا يمكنه أن يسجل هدفاً حتى في ملعب يميل نزولاً.
ـ هذا؟ لن يسجل هدفاً حتى ولو قيدوا له يدي حارس المرمى».
حارس مرمى : «يسمونه كذلك، البواب، والغولار، وحارس الحاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات. ويقولون إن المكان الذي يطؤه لا ينبت فيه العشب أبداً.إنه وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيداً إعدامه رمياً بالرصاص بين العوارض الثلاث».

ومعبود : «وفي يوم ميمون تُقبّل ربة الريح قدم الرجل، القدم المُذَلة المُهَانة، ومن هذه القبلة يولد المعبود في كرة القدم . يولد في مهد من القش وفي كوخ من الصفيح ويأتي إلى الدنيا محتضناً الكرة. إنه يعرف اللعب منذ أن يبدأ المشي. ففي سنواته المبكرة يُبهج المراعي، يلعب ويلعب في مجاهل الضواحي الهامشية إلى أن يخيم الليل ولا يعود قادراً على رؤية الكرة، وفي سنوات شبابه يطير ويُطيِّر في الاستادات. فنونه البهلوانية تجتذب الحشود، واحداً بعد آخر من كل أسبوع، ويتنقل من فوز إلى فوز، ومن تصفيق إلى آخر. الكرة ما بين القمتين

أحفادهم الذين لم يولدوا بعد لأنهم لم يروها.
لكنه يبقى معبوداً برهة وحسب، أبدية بشرية، شيء لا يُذكر؛ فعندما تحين ساعة النحس للقدم الذهبية، يكون النجم قد أنهى رحلته من الوميض إلى الانطفاء. يكون قد تحول إلى هذا الجسد الذي يضم رقعاً أكثر من بدلة مهرج، ويصبح الأكروباتي مشلولاً، والفنان بهيمة:ـ آه، ليس بحافرك!
ويتحول مصدر السعادة العامة إلى مانعة الصواعق التي تمتص غضب الجمهور:

ـ أيها المومياء!
في بعض الأحيان لا يسقط المعبود دفعة واحدة. ولكنه حين ينكسر أحياناً، يلتهم الناس فتاته.
ما الذي بقي من كرة القدم، سوى توقعات وملايين الدولارات، وسياسة تدخل من كل الأبواب لتحتل حتى عالم كرة القدم..                                                          ■■

معلومات إضافية

العدد رقم:
178