لبنان والعراق وأوهام الحرب الخاطفة

لكلٍ من تمريغ أنف إسرائيل في الوحل اللبناني والمأزق الأميركي في العراق منبعٌ واحدٌ. ولذلك فإن من الأرجح أن تسود الأوهام ذاتها التي صاحبت كيفية التعامل مع القوى الجديدة في الشرق الأوسط، محدثة معها المزيد من التداعيات والعواقب الوخيمة، فيما لو تقرر توجيه ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية لإيران.

وغالباً ما يسود الإصرار على تكرار الخطأ بما يكفي، خاصة إذا ما كان هذا الإصرار يعكس رغبة مهنية أو يعبر عن تحيّز ما، أو كان شكلاً من أشكال التشوه المهني. ومن ذلك مثلاً الاعتقاد السائد لدى كل من الجنرالات والقادة العسكريين الأميركيين والإسرائيليين بأن في مقدور القصف الجوي وحده، تحقيق النصر على العدو. وليس هذا الاعتقاد أمراً ثانوياً أو مستصغراً بأي حال من الأحوال، طالما ظلت واشنطن وتل أبيب على إدمانهما المفرط لاستخدام القوة الجوية في المعارك والحروب، بصرف النظر عما يترتب على ذلك الاستخدام من قتل وفتك بالمدنيين العزّل دون تمييز أو اعتبار.
والواضح أن هاتين الدولتين لا ترغبان في التخلي عن تعويلهما على القوة العسكرية، حتى وإن جاءت نتائجها مدمرة وكارثية، كما هو الحال في لبنان. وإنه لمن الخطأ الفادح دائماً أن ينصَّب ضابط في سلاح الطيران رئيساً لأركان الحرب، كما فعلت إسرائيل. وقد كان الوهم العسكري الذي أحاط بهذه الحرب الأخيرة في صيغة "حرب خاطفة رخيصة، سرعان ما تنتهي وتستخلص دروسها لتوجيه ضربة لإيران".

وكان قد جرى تكريس عقيدة اليد العليا لسلاح الطيران في الحروب بعناد الجنرالات المستمر منذ عام 1921، وهو التاريخ الذي نشر فيه "جيليو دوهي" المنظِّر الإيطالي للقوة الجوية كتابه "القيادة الجوية"، بيد أن هذه العقيدة كثيراً ما ثبت خطؤها. ولعل القنبلة الذرية كانت قد بدت وكأنها وعد جديد للهيمنة الحربية لسلاح الطيران. لكن وعلى رغم نجاح استخدامها في كل من هيروشيما وناجازاكي في وضع حد نهائي للحرب العالمية الثانية، لاسيما وأن اليابان قد أُنهكت براً، بينما تلقت هزائم ماحقة بحراً وجواً، فإنه ما من أحد جرؤ على استخدام السلاح النووي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، والسبب هو أنه ما من حكومة باتت على قناعة بإمكانية إحرازها نصراً عسكرياً بواسطة السلاح النووي، دون أن يحسب ذلك الفوز هزيمة سياسية لها.
لكن على رغم ذلك فإن هناك من العناصر في وزارة الدفاع الأميركية اليوم - ولاشك في غيرها من وزارات دفاع دول أخرى- من لا تزال تحلم بإضفاء "شرعية" على استخدام السلاح النووي، عن طريق البرهنة على إمكانية خوض حرب نووية قادرة على فرز أهدافها والتمييز بين من تستهدفهم. من ذلك مثلاً قول البعض بإمكانية تدمير المرافق والمنشآت النووية الإيرانية نووياً.
ثم هناك التشوه الأشد خطراً ودماراً في الفكر السياسي- العسكري المعاصر، على نحو ما نرى في كل من غزة ولبنان. وهو تشوه أيديولوجي الأصل والمنبت ويقوم على رؤى سطحية ساذجة تبسيطية لعلاقات القوى العالمية ولجدوى العمل العسكري. وهي لاشك رؤى شمولية متطرفة في اختلاقها الذرائع والأوهام التي تبرر بها عملياتها الجارية على الأرض، ظناً منها أنه في الإمكان قسر تلك الأوهام حتى تبدو حقيقة عينية ماثلة. ومن ضروب هذا الوهم، فقد أقدمت إدارة بوش على غزو العراق ظناً منها أنه دولة إرهابية وأنه فيما لو تم تحريره من قبضة النظام المستبد المتحكم فيه، فإن ذلك سيدفع به تلقائياً باتجاه التحول ليصبح دولة ديمقراطية في المنطقة. ولكن الذي تحقق عملياً على الأرض، هو الجزء الأول من هذا الوهم، القائل إن العراق دولة إرهابية. والشاهد أن العراق قد تحول إلى بؤرة من بؤر الإرهاب الدولي بسبب هذا الغزو، بل بات العراق يمثل تهديداً فعلياً لجيرانه وللمنطقة بأسرها، على النحو ذاته الذي ذهب إليه الشق الأول من الأسطورة. وبالنتيجة فقد تشرذم العراق وانفرط عقده الاجتماعي، بينما جرى تدمير بنيته التحتية الصناعية، وأزهقت فيه أرواح آلاف المواطنين هباءً.

وفي المقابل كان المجتمع الدولي قد صعّد ضغوطه ومطالبته للفلسطينيين بعملية الإصلاح السياسي، وانتخاب حكومة ديمقراطية شرعية لهم. وما أن فعل الفلسطينيون ذلك عبر انتخابهم لحكومة "حماس"، حتى توقفت المساعدات المالية التي كان يقدمها للسلطة الفلسطينية كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. بل جرى حجز أموال السلطة وأوقفت المساعدات الغذائية والإنسانية عن الفلسطينيين عقاباً لهم على انتخابهم لحركة "حماس".
ومن منابع الأوهام والأساطير ذاتها، جرى تخطيط وتنفيذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، بالتنسيق مع بعض دوائر "المحافظين الجدد" في واشنطن على أمل أن تكون هذه الحرب بمثابة "بالون اختبار" لتوجيه ضربة جوية خاطفة لإيران. وعلى حد قول "سيمور هيرش" وغيره من المصادر العليمة في واشنطن، فقد جرى تنسيق وترتيب هذه الهجمة الجوية على لبنان، دفعاً بالخطة التي روج لها كل من ديك تشيني نائب الرئيس بوش وغيره من كبار صقور "المحافظين الجدد". غير أنه نقل عن الرئيس بوش نفسه أنه ينظر إلى "تحرير إيران" باعتباره تتويجاً لإنجازات إدارته. ولكن قبل أن نصل إلى إيران، دونك هول وفداحة ما حدث في لبنان جراء هذه الأوهام العسكرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
280