خطابات بوش، شيني، رامسفيلد: قَرع جديد للحرب

في سلسلة منسقة من الخطابات، بدأ الرسميون الكبار في إدارة بوش حملة شعبية لكسب الرأي العام باعتماد أسلوب الافتراء والترويع ضد معارضي الحرب في العراق، وتهيئة الأرضية لدفع الأمريكيين نحو حرب جديدة وأكثر هولاً- وهذه المرة ضد إيران.

رفض الرأي العام بشكل واسع خطابات الثلاثة الكبار التي اتصفت بلهجة هستيرية مكررة لأفكار سابقة. وهذه الخطابات عبَّرت عن قلق البيت الأبيض بشأن الانتخابات النصفية في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم والتي قد تُكلِّف خسارة الجمهوريين لأغلبيتهم البرلمانية بمجلسيها: الشيوخ والنواب. وهنا منبع القلق، بل الخوف والاضطراب والذعر التي تُعاني منها الإدارة الأمريكية. لكن القادم قد يكون أكبر من نتائج الانتخابات النصفية القصيرة الأمد.
يتضاءل الاعتقاد كثيراً بأن اللهجة الهستيرية والمقارنات التاريخية يُمكن أن تُغير المعارضة القويةللرأي العام ضد الحرب في العراق. وإذا حصل أي شيء مغاير فإن الأدلة القائمة تُشير باتجاه المزيد من هذه المعارضة.
لا يقود أسلوب بوش إلى إقناع الشعب الأمريكي، بل إلى تخويفهم وخلق الرعب فيهم عن طريق خطابات نارية تهددهم بالويل والثبور، بُغية نزع الشرعية عن أي نقد يوجه إلى الحرب في العراق والتي تتعدى مراوغات الحزب الديمقراطي التي تقوم على تكتيكات وتحديات في سياق نفس المقدمات/ الأفكار الجوهرية لجهود الإمبريالية الأمريكية للسيطرة على "الشرق الأوسط" وإعادة تنظيمها.
مع الأخذ في الاعتبار عقيدة بوش في شن حروب وقائية، ربما يستثمر هجومه الحالي على مُعارضي الحرب لخدمة الحرب القادمة في برنامجه- الحرب ضد إيران- البلد الذي يتجاوز نفوسه ثلاثة أضعاف نفوس العراق.
ويرتبط بذلك أن الحملة الإعلامية المماثلة لتأييد الحرب على العراق في آب/ أغسطس 2002 قادت إلى سابقة مشؤومة، حيث تواصلت مثل هذه الخطابات الحماسية لقادة البيت الأبيض لكسب التأييد، في حين أن قرار الحرب على العراق كان قد أُتخذ قبل شهور من بدء تلك الحملة.
إن تماثل الأسلوب في الحالتين أمر واضح، وبالنتيجة فالتحذير واجب: من المحتمل جداً أن تكون إدارة بوش سبق وقررت شن الحرب على إيران، إذ طالبها بوش في إحدى خُطَبِه الإذعان لطلب الولايات المتحدة التخلي عن برنامجها النووي "أنه لفرصة لإيران أن تختار: نحن قررنا خيارنا."

التزييف البشع للتاريخ
العنصر الأكثر بروزاً في هذه الخطابات هي الخلط بين مختلف القوى السياسية المعارضة للسياسة الخارجية الأمريكية: الوطنيون/ القوميون، الإسلاميون والمجموعات الإرهابية، علاوة على النازيين/ الفاشست- القرن العشرين. برز ذلك على نحو أوضح في كلمة رامسفيلد عندما شبَّه موقف معارضي الحرب الحالية بموقف: نيفيل تشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا في الثلاثينات المعروف بسياسته المرنة تجاه هتلر.
أسلوب الحكم هذا يقوم على المنهج القديم: القياس والتمثيل الذي تجاوزته الحضارة الحديثة.3 كما أن تشبيهات رامسفيلد يعتمد على معلومات تاريخية منقوصة. وهنا، في الحقيقة، يظهر وكأنه (رامسفيلد) يقف على رأسه.. ألمانيا النازية كانت نظام حكم إمبريالي، الأكثر قوة وتقدماً صناعياً في أوربا.. طمعت طبقة الحكم السيطرة على القارة والعالم كله. بينما نشأت الأحزاب الوطنية/ الإسلامية/ اليسارية.. في بلدان لها تاريخ طويل من التعرض للاضطهاد الإمبريالي: بريطانيا وفرنسا وغيرهما من القوى الغربية، ثم أصبحت هدفاً للولايات المتحدة في توجهها فرض سيطرتها الإمبريالية على العالم.

إن الدولة التي تعتمد سياسة خارجية في سياق تبني أهداف وآليات ألمانيا النازية هي دولة بوش. فالسمات المميزة لأزمة الثلاثينات التي رافقت ألمانيا النازية في ثلاثينات القرن الماضي، ظهرت مجددا لترافق دولة بوش: العسكرية الهائجة، مع قوة قاهرة لدولة كبرى تحتل شعوباً صغيرة ضعيفة، التحدي المكشوف للقانون الدولي من قبل الدول الكبرى التي تشعر بإمكان استخدامها القوة العسكرية دون مواجهة العاقبة، تطبيق أسلوب "الكذبة الكبرى" ونشر التهريج/ الترويج الدعائي propaganda للتأثير في/ وتحريف الوعي العام، خلق ونشر بيئة تقوم على الخوف والرعب لتبرير الاضطهاد الداخلي والخارجي، واستخدام العنف ضد الأقلية في سياق تخطيط وتنفيذ وتلفيق أحداثٍ ووسائلَ شيطانية وإظهارها كتحديات للحكومة (كما في تدبير هتلر حرق الريختشاغ/ البرلمان) لضمان دعم الرأي العام في تطبيق الأساليب الدكتاتورية.
رغم الاختلافات في المناهج السياسية والظروف التاريخية، هناك حالة تشابه واحدة طاغية بين ألمانية هتلر وأمريكة بوش. ففي كلتا الحالتين اعتمدت النخبة الرأسمالية الحاكمة أسلوب ضعضعة وتصفية الأنظمة التي كانت تدعو إلى تطوير العلاقات الدولية على نحو أقرب للتكافؤ لخدمة أهداف شعوبها والعالم. سياسة هتلر (التوجه نحو الشرق) وجدت نسختها المطابقة لدى بوش (التوجه نحو "الشرق الأوسط"): ما بدا أنه غزو أفغانستان بزعم العلاقة مع أحداث 11 سبتمبر تحول إلى جهود أمريكية لإخضاع كامل المنطقة، بدءاً من شواطئ البحر الأبيض المتوسط لغاية أبعد نقطة في آسيا الوسطى، وضمان سيطرة أمريكا على مواردها النفطية الضخمة.
وهنا يكمن عنصر الجنون في مثل هذه السياسة، دون أن يعني ذلك أن بوش وشركاه Bush and Co. سوف لن يحاولوا تنفيذ هذا السياسة المجنونة. لقد كانت سياسة هتلر بالتأكيد سياسة مجنونة. أقحم بشكل مُدبَّرْ الإمبريالية الألمانية في حرب على جبهتين، في حين تحاشى ذلك كافة الحكام السابقين لألمانيا. وأيضاً على نفس المنوال، رفس بوش السياسة الخارجية الأمريكية الرصينة، ليس فقط لرؤساء أمريكا السابقين، بل حتى السياسة الخارجية التي تبنتها إدارة أبوه نفسه.

ضخامة التناقضات
يكشف جوهر خطاب بوش عن عمق الانحطاط الفكري لأُولئك ممن يهندسون إدارة البيت الأبيض، مع ملاحظة أن خطاب الرئيس يُشارك في إعداده نُخبة من خبراء كتابة الخطابات ويُراجعه نخبة من السياسيين القدماء، ليصير مع الوقت إعلان سياسة من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لكن ما أُعلن على الملأ من هذه الخطابات، لم تكن مجرد زائفة، بل زائفة بشكل فاضح، تتسم بالتناقض/ الوهم الذاتي، سخيفة ومنافية للعقل.
قال بوش أن حربه على الإرهاب "صراع إيديولوجي حاسم في القرن الحادي والعشرين،" يحرص من خلالها الدفاع عن الحرية والتحرير "ضد مَنْ مَنحوا أنفسهم من القلّة حقَّ فَرض أفكارهم المتعصبة على غيرهم من الأكثرية." وهذه الفقرة مفيدة في إجراء توصيف سليم للأساس السياسي والاجتماعي لإدارة بوش نفسها.. هذه الإدارة التي تقوم على دعم مجموعة من الأصوليين المسيحيين المتعصبين الذين يُطالبون، ليس فقط بحرية العبادة لمعتقداتهم- حيث يمارسونها على أوسع نطاق- بل أيضاً حرية فرض عقيدتهم المتعصبة، التي تعود للقرون الوسطى، على كل شخص في أمريكا.
زعم بوش أن سياسته الخارجية جسَّدتْ "برنامجاً للحرية" باتجاه بناء حكومات ديمقراطية في (الشرق الأوسط)، متجاهلاً أن الحكومات الأقوى في المنطقة والمتحالفة مع الولايات المتحدة هي أنظمة استبدادية يقودها مبارك في مصر والعائلة المالكة في السعودية ومجموعة شيوخ في إمارات الخليج العربي.
بسبب الحماقة البالغة، يصعب تخطي الفقرة التالية من خطاب بوش بالعلاقة مع أزمة لبنان: "أنا أُقَدِّر القوات التي خُصصتْ من قبل فرنسا وإيطاليا وبقية الحلفاء لهذا الانتشار الحيوي دولياً. يداً بيد نحن ذاهبون لجعل ذلك واضحاً للعالم بِأنَّ القوى الأجنبية والإرهابيين ليس لديهم مكان في لبنان الحر الديمقراطي." إذن لا مكان للقوات الأجنبية.. والبديل هو نشر قوات احتلال كثيفة تتضمن آلاف الجنود... من فرنسا وإيطاليا!
كانت هناك أيضاً إشارات قليلة تمس جوهر كلام بوش، فعلاوة على تحذيره لإيران، كما سبقت المناقشة، أشار كذلك إلى نظام المسخرة لرئيس وزراء العراق (المحتل) بقوله أن الولايات المتحدة ستستمر في دعمه "طالما أن الحكومة الجديدة مستمرة بإصدار قرارات ضرورية...". هذه هي جوهر أفكار بوش السياسية، طالباً من هذه الحكومة (الدُميّة) الدعم والمساعدة لضرب جماعة من طائفة الحكومة نفسها- جماعة مقتدى الصدر- حتى وإن كانت أغلبية هذه الحكومة في البرلمان تقوم على دعم هذه الجماعة!
أخيراً برر بوش أسلوب إدارته للحرب في العراق باعتباره جبهة قتال مركزية ضد الإرهاب وبالاستشهاد بنفس مستوياته الفكرية من قادة منظمة القاعدة، حيث أعلنت هذه المنظمة بعد الاحتلال وعلى لسان قادتها نفس التبرير بأن العراق أصبح النقطة المحورية لنشاطاتها الحالية.. هذا رغم أن القاعدة لم يكن لها وجود في العراق لغاية الغزو/ الاحتلال الأمريكي وإسقاط نظامه.
إن سلسلة خطابات بوش وكبار مساعديه لها فقط أثر صحي واحد: إجبار الحزب الديمقراطي التأكيد على دوره باعتباره الحزب (التوأم) الثاني للإمبريالية الأمريكية.. الحزب الذي اعترف على نحو متكرر بمشروع نهب "الشرق الأوسط" في حين يراوغ لتجاوز تكتيكات وآليات إدارة بوش.

معلومات إضافية

العدد رقم:
281