الحرب على العراق..هزيمة استراتيجية للأحلام الأمريكية

إن ما يحصل الآن على أرض العراق هو بمثابة هزيمة إستراتيجية لمشروع الولايات المتحدة الأمريكية الكوني وذلك بفضل المقاومة الباسلة الرافضة للاحتلال بكافة أشكاله والتي قدر لها أن تتحمل وزر الدفاع ليس عن العراق فحسب بل عن كرامة الأمة العربية وربما عن مصالح الشعوب الحرّة في العالم.

إذا اعتبرنا أن الحرب على العراق جزء من مخطط شامل فتقييم ذلك المشروع مرتبط بالأهداف المعلنة وحتى غير المعلنة للمشروع الأميركي في المنطقة. 

أما أهداف الحرب المعلنة على العراق فهي: 

1. حسب مزاعم الإدارة نزع سلاح الدمار الشامل والقضاء على معقل أساسي لما تسمية با«لإرهاب». غير أن هذه المزاعم الملفّقة كشفت عن هزالة مصادر المعلومات وإخفاق الأجهزة الاستخبارية والأمنية في استكشاف وتقصّي الحقائق مما أصاب تلك الأجهزة في صميم مصداقيتها.

2. إيجاد نظام موالٍ للولايات المتحدة يعترف بإسرائيل ويكون نموذجا تقتدي به دول المنطقة. إلاّ أن الحكومة الحالية لا تسيطر إلاّ على جزء من بغداد وحتى ذلك يكون بالكيد! إذن الهدف السياسي الإستراتيجي المرجو من الحكومة التابعة للولايات المتحدة ما زال بعيداً عن تحقيق النموذج الذي ستقتدي به دول المنطقة. ومن الأهداف التابعة لتلك الرؤية تفتيت المجتمع العراقي ونزع عروبته عبر تغذية النعرة المذهبية والعرقية لتبرير بقاء قوات الاحتلال إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل بسبب وعي الشعب العراقي وقيادات مكوّنات المجتمع العراقي ووطنيته وعراقة ثقافته القومية العربية.

3. أما الحرب على العراق من منظور أميركي فهو السيطرة المباشرة على منابع النفط العراقية بغية التحكّم بالأسعار وبالتالي التحكم بسياسات الكتل والدول المنافسة للولايات المتحدة. حتى الآن ما زالت الولايات المتحدة عاجزة عن توفير الحماية لأنابيب النفط مما أدّى إلى تعطيل التصدير بشكل منتظم وعدم الاستفادة من النفط العراقي.

تكاليف الحرب

الكلفة البشرية: ربما هي الكلفة التي تثير مشاعر المواطن الأميركي بشكل مباشر. الإحصاءات في هذا الموضوع متغيّرة بشكل يومي وعلى تصاعد. فمنذ بداية الحرب في 19 آذار 2003 وحتى 16 حزيران 2004 سقط لقوات التحالف 952 قتيلاً منهم 836 أميركياً. إن الأرقام المعلنة قد تكون دون الحقيقة إذ تحاول القيادة العسكرية الأميركية إخفاء الخسائر. وهناك أيضا عدد من القتلى لـ"المقاولين" الأمنيين أو العسكريين من القطاع الخاص- أي المرتزقة- يتّم التستّر عليهم بسهولة أكبر لأنهم لا يخضعون للمراقبة من قبل السلطات الأميركية.

الكلفة الأمنية: جعل الرئيس بوش الحرب على الإرهاب حجر الزاوية لولايته بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. إن أحد أهداف الحرب على العراق كان ومازال القضاء على معقل أساسي للإرهاب على حد زعم الإدارة الأميركية. ولا يتردّد الرئيس بوش في تكرار مقولة أن العالم عامة والولايات المتحدة خاصة أصبح أكثر أمناً من السابق. فما هو واقع الحال؟ تفيد تقارير المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية أن عدد الملتحقين بتنظيم القاعدة أصبح ثمانية عشر ألف منهم ألف متواجدون في العراق.

تجمع كافة استطلاعات الرأي على أن الحرب أضّرت بمكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في العالم. وأشارت استطلاعات الرأي العام في ثماني دول أوروبية وعربية إلى أن الحرب على العراق قد أساءت إلى الحرب على الإرهاب كما أن 54% من المستفتين في الولايات المتحدة يعتقدون أن الحالة في العراق والنتائج المحققة حتى الآن لا تبرّر الذهاب إلى العراق والعدوان عليه أو حتى البقاء. كما أشار عدد من العسكريّين السابقين بمن فيهم القائد الأسبق للقيادة المركزية الوسطى الجنرال انطوني زيني أن الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأميركية هي فبركة الذرائع المغلوطة والتخلّي عن تحالفاتها التقليدية والاتكال على معلومات المعارضة العراقية المنفية ذات المصداقية المنقوصة وخاصة في عدم إعداد خطّة لما بعد الحرب- كل هذه الأخطاء جعلت الولايات المتحدة أقّل آماناً. وأخيرا تفيد التقارير التي أعدّها الجيش الأميركي هذه السنة أن 52% من عناصر الجيش يشكون من انخفاض معنوياتهم وحوالي ثلاثة أرباع يشكون من رداءة القيادة إضافة إلى افتقار المعدات الضرورية لحماية القوات المسلحة.

الكلفة الاقتصادية: الكلفة الاقتصادية المباشرة تتمحور حول ما تمّ من إنفاق مباشر على الحرب. تتراوح التقديرات بين (125 -135) مليار دولار حتى آخر أيلول 2004. ويعتقد أن القيمة الفعلية للنفقات هي أقرب إلى 149 مليار دولار.

التأثير على الاقتصاد الأميركي

 الواضح أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلة معقدة للغاية. فمن ناحية تمّر بأزمة بطالة هيكلية لم تستطع الإعفاءات الضرائبية تخفيفها بسبب تصدير الوظائف إلى الخارج. إن قضية البطالة تعكس النتيجة الحتمية لتوجهات الاقتصاد الليبرالي الجديد والنمط الفكري السائد عند النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي أعطت الأولوية لتوزيع القيمة المضافة المنتجة لرأس المال وعلى حساب اليد العاملة. أما المشكلة الثانية والمباشرة فهي قضية العجز المتفاقم في الموازنة حيث تتوقع الإدارة أن يصل العجز إلى 445 مليار دولار عام 2005. المشكلة الثالثة هي قضية النفط. كان الرهان قبل الحرب علماً أنه بإمكان الولايات المتحدة السيطرة المباشرة على منابع النفط في العراق تمهيدا للسيطرة على سائر المنابع في المنطقة بعد أن استكملت إعادة رسم خريطتها السياسية.

إلا أن المقاومة الباسلة استطاعت تعطيل تلك السيطرة عبر ضرب الأنابيب. إن عدم تحقيق برامج الضخّ المتوقعة تلازم مع ازدياد الاستهلاك العالمي مما أدّى إلى ارتفاع ملحوظ بسعر برميل النفط الذي تجاوز 45 دولاراً. والمصادر النفطية في الولايات المتحدة تتوقع ارتفاع سعر البرميل إلى أكثر من 50 دولاراً . كل ذلك قد يؤدي إلى ضغوط تضخمية تعطّل عملية النمو الاقتصاد الأميركي المهتزّ أصلا. هذا وقد دخل موضوع النفط وتبعية الولايات المتحدة للنفط الشرق أوسطي في محور الخطاب الانتخابي عند المرشّح جون كيري الذي يهدد بتخفيض الاعتماد على نفط المنطقة.

الكلفة الاجتماعية: الكلفة الحقيقية هي الفرص المهدورة التي كان بإمكان المواطن الأميركي أن يستفيد منها وهي بمعظمها نفقات ذات طابع اجتماعي. نفقات الحرب منعت من تحقيق ما يلي في الولايات المتحدة:

1) إعطاء ثلاثة وعشرين مليون سند إسكان.

2) تحقيق الضمان الصحّي لسبعة وعشرين مليون مواطن أميركي غير مكفول.

3) رواتب لثلاثة ملايين مدرّس ابتدائي. إن متوسط أجور المدرّسين 42 ألف دولار.

4) ستمائة وثمانية وسبعون ألف سيارة إطفاء.

5) فوق عشرين مليون مركز للتعليم المبكر للأطفال.

ضمان صحي لثمانية وعشرين مليون طفل.

التداعيات السياسية الداخلية. يغفر الأميركيون أخطاء قيادتهم في حال نجاحهم في تحقيق المهام التي لم يتمّ الاتفاق عليها . إصرار الإدارة على المضي في مخطط الحرب كان مبنيا على الرهان التالي وهو أن النجاح الباهر الذي ستحققه بسرعة وبكلفة بشرية ومادية قليلة قد يلغي أي تحفظ في آخر المطاف حتى إذا ما كانت الكلفة أكثر مما كان متوقعا.

و لكن الفشل يوّلد الانتقاد ويغذّي الانقسام السياسي الداخلي بين مؤيد ومعارض للحرب وكل لأغراضه الخاصة.

لكن أين واقع الحال الآن؟ إن مطالعة لمواقف مختلف عناصر النخب تفيد بشكل واضح أن الخلاف بين مؤيّد ومعارض هو على إدارة الحرب على العراق وليس على موضوعه بحد ذاته من حيث المبدأ أو حتى على مبدأ الإمبراطورية.

أما القوى التي تعارض بشكل واضح الحرب على العراق والبقاء فيه فهي مهمشّة بشكل عام.

فالمشروع الإمبراطوري يحظى بموافقة النخب منذ زمن طويل ويعود ذلك لبنية النظام السياسي والاقتصادي التوسعي منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى اليوم.

و نلاحظ تقارب خطاب بوش من خطاب كيري في معالجة تداعيات الحرب والمحاولات لإشراك العدد الأكبر من الحلفاء في عملية حفظ الأمن وإعادة الإعمار وإن كانت المفاصل غير واضحة حتى الآن.

لكن هذا التباين-التوافق لا يخفي حقيقة وهي إذا ما تمّ إعادة انتخاب بوش فإن النتائج ستكون وخيمة على المنطقة العربية خاصة وأن بوش سيعتبر إعادة انتخابه تفويضا لمتابعة الحرب واحتلال العراق بشكل مطوّل.

أما على الصعيد الشعبي فتدلّ استطلاعات الرأي العام أن الحرب غير شعبية في مناطق عدة من الولايات المتحدة. من جهة أخرى لو أن الخسائر البشرية محصورة بالجانب العراقي لاعتقد الأميركيون أن المسألة عراقية داخلية لا تطال الولايات المتحدة إلاّ بشكل غير مباشر.

و ربما كان هذا الهدف من نقل السلطة إلى حكومة عراقية طيّعة للإيحاء بأن الولايات المتحدة أعادت السيادة للعراقيين وأن مهمتها باتت تنحصر في مساعدة الحكومة العراقية على بسط الأمن والسيادة وأن الضحايا العراقية هي من صنع العراقيين والمسؤولية المعنوية لوقوع هذه الضحايا إذن هي على عاتق العراقيين فقط.

لكن كل ذلك مرهون بارتفاع وتيرة المواجهات وسقوط القتلى والجرحى من الجانبين الأميركي والعراقي.

عند ذلك الحين تتلازم التطورات العسكرية مع تردّي الأوضاع الاقتصادية لهزم بوش في الانتخابات إلا إن ما حصل حتى الآن قد لا يكفي لحسم المعركة الانتخابية. فما زالت الإدارة متمكنة من تسيير الأمور بشكل يتوافق مع أهدافها السياسية وما زالت قادرة على تجاوز الفضائح التي هزّتها.

الأمر الثاني والمهمّ هو قدرة النخبة الحاكمة في استيعاب الصدمات طالما كانت الكلفة للمشروع ضمن الحدود المادية التي يمكن أن تعوّض. لذلك تحرص النخب الحاكمة على مواكبة السيطرة على الحدث عبر مراقبة التغطية الإعلامية مستفيدة من دروس حرب فيتنام

و لا أعتقد أن حجم الخسائر التي تكبدّها المقاومة العراقية للقوات الأميركية وصلت إلى النقطة التي لا تطاق وإن بدأت تقترب من الرقم المعنوي من ألف قتيل. لذلك نرى القوات الأميركية بدأت بشن هجوم واسع وشامل على النجف اعتقادا أنه بإمكانها حسم المعركة قبل موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني.

الأمر الثالث هو ظاهرة بعض بوادر التمرد داخل الإدارة. إن تسريب الصور والمعلومات عما جرى في سجن أبو غريب لشبكة سي. بي. آس. تمّ من قبل مسؤولين عسكريين كبار معارضين للحرب أو على الأقل للسياسات المتبعة. حدث آخر ملفت للنظر هو كتاب صادر عن مسؤول رفيع في الوكالة الاستخبارات المركزية يفضح العديد من المسؤولين في الإدارة وتورطهم بقضايا خارجة عن القانون.

و أخيرا لا بد من ذكر كتاب ريشارد كلارك الذي فضح توجهات الإدارة منذ أن تولّت مهامها وعدم جدّيتها في مكافحة الإرهاب حتى واقعة أحداث الحادي عشر من أيلول والهاجس المزمن لشنّ الحرب على العراق. الأمر الأخير الذي ينبغي أن نعيه هو أهمية الالتفاف حول الرئيس في وقت الحرب وهذا الخطاب يروّجه الحزب الجمهوري في الحملة الانتخابية الرئاسية. وقد يصعب على المرشح كيري تجاوز هذه الدعوة وإلا لتعرّض إلى تهمة الميوعة في وقت الشدّة. إن قضية الحرب على الإرهاب تتصدر خطاب بوش في حملته الانتخابية والتي ما زالت تلاقي التعاطف من قبل الجمهور الأميركي. فبمقدار ما يستطيع بوش تسويق الاحتلال كجزء من الحرب على الإرهاب يستطيع تبرير كافة سياساته الحالية.

التداعيات السياسية الخارجية

 لقد نجحت المقاومة في العراق حتى الآن في فك جزء مهم من سلسال التحالف. من جهة أخرى بات واضحا للقاصي والداني أن الاستخفاف الأميركي بمؤسسات المجتمع الدولي أصبح عبئا على السياسة الخارجية. فهذه هي الولايات المتحدة تستعين بالأمم المتحدة لكسب نوع من الشرعية لتواجدها في العراق وهذا هو المرشحّ كيري يعد بالتعاون مع الأمم المتحدة والحلفاء التقليديين كفرنسا وألمانيا من أجل إيجاد مخرج من المستنقع العراقي. طبعا لم تأت الإدارة الأميركية إلاّ مكرهة للأمم المتحدة وقد تعود إلى تهميش المؤسسة الدولية إذا ما أعيد انتخاب بوش لأنه سيعتبر فوزه بمثابة تثبيت لرؤية الإدارة عند الجمهور الأميركي.

المستفيدون من الحرب

هناك فريق لا يستهان به استفاد بشكل مباشر من الحرب وهو فريق الصناعات الحربية وشركات المجمع العسكري الصناعي الذي تكلمّت عنه في بحثي المذكور سابقا. وأخص في ذلك الموضوع الشركات المتواجدة في العراق بحجة إعادة إعماره كشركة كيللوغ براون ورووت (Kellogg، Brown، & Root) التابعة لشركة هالبرتون التي كان يرأسها نائب الرئيس ريشارد شيني! واقترنت هذه الشركة بسلسلة من الفضائح المالية والمهنية في مهامها في العراق تناولتها الصحف الأميركية ومؤسسات الرقابة المالية التابعة للكونغرس الأميركي.

التأثير الثقافي

أشير إلى فيلم المخرج الأميركي مايكل مور الذي كسر كافة أرقام الواردات لفيلم وثائقي (أكثر من مائة مليون دولار). إلا أن الضجة التي أحدثها الفيلم دليل واضح عن الأهمية المتزايدة للحرب داخل المجتمع الأميركي. أضف إلى ذلك انتشار المواقع على الإنترنت التي تتناول الحرب بشكل مباشر بين مؤيد ومعارض إلا أن الأكثرية تبدو في صفوف المعارضة للحرب. والسبب يعود إلى فقدان المصداقية للإعلام العام (mainstream media) الذي أصبح مماثلا لإعلام دول العالم الثالث الذي يتماثل مع الموقف الرسمي.

2004/8/13

■ د. زياد الحافظ

 

مقتطفات مطولة من محاضرته

معلومات إضافية

العدد رقم:
232