كوبا- الشوكة في حلق واشنطن: إنجازات وتحديات
في السادس والعشرين من الشهر الفائت، غيّب الموت القائد الثوري الكوبي، فيديل كاسترو، عن عمر يناهز التسعين عاماً. الوقع الثقيل للخبر خيّم السبت الماضي على العالم بوجهٍ عام، ودول أمريكا اللاتينية بوجهٍ خاص. لقد خلّف نموذج كاسترو وراءه الكثير من الإنجازات، إلا أنه وفي الوقت عينه، قد ترك كوبا أمام تحدياتٍ كبيرة، واستحقاقات جديّة، لم ينكرها كاسترو ذاته.
كما هو الحال في مجمل المسائل المتعلقّة بطبيعة الصراع ضد الهيمنة الأمريكية، انقسمت «النخب» السياسية والإعلامية في موقفها من كاسترو، بما يمثله، بين أكثرية تعترف بالإنجازات التي حققها النموذج الكوبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وأقلية ليبرالية جديدة اجترّت الحديث المشروخ عن «دكتاتورية كاسترو» و«دعمه للدكتاتوريات الأخرى».
ما نريده هنا، ليس تقديس النموذج الكوبي، والاقتصار على تعداد الإنجازات التي حققها خلال القرن الماضي، بهدف تقييد أية محاولة للحديث عن مكامن خلل ما موجودة فيه. إنما هي محاولة لفهم هذه التجربة، آخذين بعين الاعتبار، ظروفها التاريخية، التي لعبت دوراً أساسياً في مسار تطورها.
أي كوبا كانت أمام فيديل؟
ظلت الجزيرة الكوبية، التي لا تزيد مساحتها عن 110 كم2، زهاء 400 عام تحت سيطرة الاستعمار الإسباني (1511-1898)، حيث شكّلت البلاد أرضاً خصبة للنهب الذي مارسته «إمبراطورية التاج الإسباني». ومع أفول نجم الاستعمار الإسباني والبرتغالي، في مقابل صعود الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وبداية ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ذات نفوذ واسع جداً في نطاق الأمريكيتين، رأت الولايات المتحدة ضرورة جديّة في قصم ظهر الإمبراطورية المتراجعة، واحتواء حركة المقاومة الكوبية، التي كانت قد اندلعت في عام 1892 بقيادة الزعيم التحرري، خوسيه مارتي. وبناءً عليه، اندلعت الحرب الأمريكية الإسبانية في عام 1898، والتي انتهت بتوقيع «معاهدة باريس» في العام ذاته، وبموجب هذه المعاهدة، «تخلت» إسبانيا عن سيادتها الكاملة على كوبا لمصلحة الولايات المتحدة.
يمكن وسم المرحلة الطويلة اللاحقة (1898- 1956) بأنها مرحلة الاستعباد الأمريكي التام للجزيرة الكوبية، ففي ظل الدستور الجديد، كان يحق للولايات المتحدة إدارة الشؤون الكوبية، والتحكم بالشؤون المالية والعلاقات الخارجية للبلاد، أما «تعديل بلات» الذي جرى في عام 1903، فـ«استأجرت» الولايات المتحدة عبره قاعدة خليج غوانتانامو البحرية في كوبا. وتدرج الرؤساء التابعين للولايات المتحدة خلال هذه الحقبة، وصولاً إلى فولغينسيو باتيستا الذي كان قد رسّخ البلاد كملكية مطلقة لواشنطن.
الثورة ضرورة..
في عام 1952، كان قد بدا جلياً تبلور مزاج شعبي كوبي عام، مناهض للهيمنة الأمريكية، وكان من الواضح في حينه، أن حركة سياسية على رأسها المحامي فيديل كاسترو باتت قريبة من اكتساح البرلمان الكوبي، إلا أن انقلاب فولغينسيو باتيستا، أدى إلى إلغاء الانتخابات البرلمانية المقررة، والحكم على فيديل كاسترو بالسجن لمدة 15 عاماً. ونتيجة للضغط الشعبي، جرى إطلاق سراح فيديل في عام 1955، ونفيه إلى المكسيك. ولدى وصوله إلى هناك، كان أخيه راؤول كاسترو قد جمع عدداً من رفاقه، بينهم المناضل الأممي أرنستو غيفارا، في إطار مجلس سياسي شكّل خلية العمل اللاحقة للثورة. في هذا المجلس، ناقش فيديل مع رفاقه سيناريوهات عدة للإطاحة بنظام العمالة الأمريكية، وكان الإجماع أنه لا يمكن إنجاز عملية التراكم والضغط إلا من داخل كوبا.
رحلة «غرانما»
حطّ قارب «غرانما» الذي انطلق من المكسيك، وعلى متنه 82 من أعضاء الحركة (التي اتخذت لنفسها اسم حركة 26 يوليو) على الشاطئ الكوبي. وكانت الفكرة تقضي بالوصول إلى سلسلة جبال سييرا مايسترا وقيادة حركة المقاومة من هناك. ومن أصل 82 شخصاً نزلوا على الشاطئ الكوبي، لم يصل إلى الجبال سوى 60 منهم، نتيجة لهجمة عسكرية غير متوقعة.
من الجبال، قاد فيديل حركة المقاومة والتعبئة. وإلى جانب مهمة القتال والقيادة، تسلّم الثلاثي (فيديل، غيفارا، راؤول) مهمة التعبئة الجماهيرية التي كانت تجري من خلال بيانات سياسية أذيعت على مدار الساعة عبر محطة إذاعية أنشأتها حركة «26 يوليو»، جرى من خلالها طرح أفكار الثورة، والمشاكل التي يعاني منها المجتمع الكوبي، والبدائل التي تقترحها الحركة.
هافانا تستقبل المنتصرين
بعد ثلاثة أعوام وفي 8 12 1959، دخلت قوات حركة «26 يوليو» إلى العاصمة الكوبية هافانا، إثر هروب الرئيس باتيستا إلى البرتغال. وفي هذه الأثناء، أدركت الحركة أنها، وإن كانت قد حسمت المعركة ضد الرئيس، إلا أن أمامها مهامٌ معقدة، تتعلق تحديداً بحماية الحركة من أي رد فعل أمريكي. وبناءً على ذلك، عينت الحركة المحامي الليبرالي، مانويل أوروتياليو، رئيساً للبلاد. وبحسب صحيفة «غرانما» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الكوبي، فإن هذه الخطوة جاءت لأهداف ثلاث، أولاً: تفادي الصدام المباشر مع الولايات المتحدة فالحركة تحتاج إلى فترة لتنظيم نفسها، ثانياً: فهم التعقيدات في مؤسسات الدولة الكوبية التي كان في داخلها نفوذ قوي لواشنطن، ثالثاً: تعرية النموذج الليبرالي، عبر وضع الشعب الكوبي وجهاً لوجه مع الليبرالية، التي تبيّن أنها ترفض عودة حقوق الناس إليهم.
وبعد الإطاحة بأوروتياليو، قامت واشنطن في نيسان لعام 1961 بغزو خليج الخنازير، والذي كان عبارة عن محاولة انقلابية من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية «CIA» والتي انتهت بالفشل. ومنذ ذلك الحين، يمكن القول أن ثورة «26 يوليو» قد تمكنت من الحكم فعلياً.
خمسون عاماً..
حصار ومقاومة وتحديات
خلال خمسون عاماً، استطاعت الثورة الكوبية، أن تخلق حالة مناهضة للولايات المتحدة في عموم القارة اللاتينية. وفي عام 2014، وصل مستوى البطالة في كوبا إلى أدنى مستوى له عند 2.7%. وبلغت نسبة الملمين بالقراءة والكتابة 99% من السكان. وترسخ التعليم المجاني من المدرسة الابتدائية إلى الدراسة الجامعية. وعلى الصعيد الطبي، حققت كوبا قفزات نوعية بعدد الأطباء الذي يبلغ اليوم 130000 طبيب، بواقع طبيب لكل 130 نسمة وبدرجة عالية من الكفاءة، عدا عن اكتشاف الكثير من اللقاحات لأمراض التهاب السحايا-ب والتهاب الكبد-ب، وأمراض فيروسية قاتلة عديدة. وباتت كوبا الدولة الأولى في العالم بالقضاء على الأمراض المنتقلة من الأم إلى جنينها بما في ذلك أمراض الزهري، وفيروس نقص المناعة.. إلخ.
وكان لانهيار الاتحاد السوفييتي (والذي يعرف في كوبا بالفترة الخاصة) بمثابة امتحان كبير للثورة الكوبية، حيث كان من تداعياتها نقص المواد الغذائية، لكن الحكومة رفضت «الهبات» الأميركية من المواد الغذائية والأدوية وحتى النقدية، وواصلت عملية المواجهة اللاتينية في وجه الهيمنة الأمريكية.
ورغم ما جرى إنجازه كله، لا يزال هناك الكثير من التحديات الماثلة أمام كوبا اليوم، ومنها ما تضعه صحيفة «غرانما» كـ«مهام ملحة وعاجلة»، كمهمة التطوير الاقتصادي والتصنيع والزراعة، ومواجهة الأنشطة المحظورة قانونياً وأخلاقياً، وتطبيع العلاقات الكوبية- الأمريكية دون إملاءات، واستعادة قاعدة غوانتانامو، والاستفادة في هذا الإطار من حالة صعود القوى الصديقة لكوبا كقطب «بريكس».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 787