ليس هناك من عدو... ليس هناك أمريكا!!
في عام 1996 نشر ليستر ثارو (أستاذ الاقتصاد في جامعة إم.آي.تي) كتاباً بعنوان: «مستقبل الرأسمالية» وكان مما تضمنه الكتاب:
أن الشيوعية إبان مجدها كانت عاملاً إيجابياً للرأسمالية، لأنها فرضت على النظام الرأسمالي تغييرات وتعديلات جوهرية لتخفيف حدة التفاوت بين الأغنياء والفقراء وحماية حقوق العمال واحتواء مظاهر الظلم الاجتماعي. «لقد كان الأثرياء أذكى مما كان ماركس يعتقد» كما يقول المؤلف، ولذلك بادروا هم بإيجاد مؤسسات اجتماعية تخفف من مساوئ الرأسمالية دون أن تقضي على جوهرها. ولكن مع انهيار التهديد الشيوعي، لم يعد هناك ما يجبر النظام الرأسمالي على تلافي عيوبه وأخطائه، وستتجه الفئات ذات النفوذ لحماية مصالحها غير عابئة بالآخرين.
فالتهديد الشيوعي كان سبباً جوهريًّا لتماسك النسيج الاجتماعي والمحافظة على روح الثقة من خلال العمل لهدف وقضية مشتركة. لما انهارت الشيوعية لم يعد هناك ما يحفظ التماسك الاجتماعي، ولم يعد هناك هدف واضح تسعى له الدولة وتوجه نحوه فئات المجتمع، فبدأت التناقضات الداخلية والأمراض المستبطنة تطفو على السطح. كان التهديد الشيوعي بمثابة «مسكنات» و«منشطات» لجسد المجتمع الأمريكي، تؤجل وتخفف من مشكلاته العميقة. لما زال هذا التهديد ظهرت هذه المشكلات بشكل أسوأ بكثير مما كانت عليه.
هناك عوامل عدة تهدد مستقبل الولايات المتحدة:
1 فالانحلال الأخلاقي عامل مدمر للبنية الاجتماعية وللعلاقات الأسرية، وهو يزداد كل يوم، وآثاره بعيدة المدى، مثل: تغير التركيبة السكانية و«كهولة المجتمع» صارت الآن حقيقة واقعة.
2 وسوء توزيع الثروة تفاقم بصورة كبيرة، وازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء خلال العقدين الماضيين بشكل مريع.
3 أما المديونية: الحكومية والخاصة؛ فهي سرطان ينمو باطراد لا يعرف الكلل. وقد بلغت المديونية حدًّا يهدد مستقبل المجتمع الأمريكي لغياب موارد تكفي متطلبات جيل «الطفرة» عند تقاعده مع الوفاء بفوائد الديون القائمة.
لقد كانت هذه العوامل موجودة قبل سقوط الشيوعية، لكنها كانت تحت تأثير المهدئات التي سمح بها وجود عدو بارز تتوحد ضده فئات المجتمع المختلفة تحت مظلة الحكومة الاتحادية؛ لكن بعد غياب هذا العدو، وزوال نشوة النصر، وجد الأمريكيون أنفسهم في مأزق.. كيف يمكنهم التغلب على هذه الأمراض المستعصية وعوامل الانهيار إذا لم يكن هناك تهديد من عدو خارجي؟
كان لا بد للولايات المتحدة إذًا أن تبحث عن عدو، ولم يكن هناك أفضل من حوادث 11 أيلول لإعلان العدو الجديد باسم «الإرهاب» وحشد الجهود لمحاربته.
وهذا يعني أن حالة الاستعداء الأمريكي ليست نزوة طارئة، وليست أمراً خاصًّا بالمحافظين الجدد أو اليمين المسيحي كما يظن البعض. فهاهم الديموقراطيون، ومنهم مرشح الحزب جون كيري والاقتصادي المعروف «بول كروجمان» وغيرهم..، يوجهون سهامهم نحو السعودية باعتبارها هي محضن الإرهاب ومموله الأول، وينتقدون إدارة بوش بأنها حاربت العدو الخطأ، وهو العراق. فليس خطأ الجمهوريين هو سياسة البغي والاستعداء، وإنما الخطأ في تعيين العدو، لا أكثر! الكل يبحث عن عدو، ومن مصلحة الجميع بقاء هذا العدو لتبقى حالة الاستنفار. صحيح أن ميول الحزبين نحو المواجهة متفاوتة، وصحيح أن أولوياتهم مختلفة، لكن تظل عوامل النظام الداخلية تضغط بقوة باتجاه الاستعداء، مهما حاول الأشخاص تجنبها أو مقاومتها. إن المشكلة في جوهرها أعمق من أن تكون خاصة بهذا الحزب أو بتلك الإدارة.
فليست القضية إذًا مجرد نزوة، وليست مجرد مزايدة سياسية، بل هناك نزعة في النظام الرأسمالي نفسه للاستعداء هرباً من عوامل الفناء التي يحملها بين جنبيه.
إن الرأسمالية لا تملك مقومات اتزان تتلافى سلبيات نظام السوق وتقوّم انحرافاته؛ فلا مفر إذًا من البحث عن عدو لتحقيق التوازن المطلوب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 228