المقاومة والفوضى والجريمة

الاحتلال هو الجريمة الكبرى، الذي يولد الجرائم الأخرى في ظله، والاحتلال يجعل في نفس الوقت المقاومة مشروعة، وسواء اعتبرت مشروعة أو غير مشروعة، فإن الاحتلال الأمريكي لايمكن إلا أن يخلق النقيض، الذي هو موضوعياً طبيعي فهو موضوعياً مشروع. والمقاومة لايمكن هندستها عن بعد، وإنما هي تابعة للتنظيمات السياسية، التي تقوم بها، وللإمكانات المتوفرة لدى هذه التنظيمات، ولكن يتساءل المرء: هل المقاومة هي من أجل الوصول إلى وضع أفضل أم إلى وضع أسوأ؟ أيضاً لايستطيع المرء هنا أن يعطي جواباً عاماً، لأن الأمر تابع للظرف التاريخي، وللقوى الفاعلة.

في القرن التاسع عشر جرت مقاومة باسلة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، كبدته خسائر كبيرة، وكادت تنهيه، بيد أنها كانت مقاومة قبلية بقيادة عبد القادر الجزائري، وكانت تاريخياً محكوم عليها بالفشل، حتى ولو انتصرت على الاستعمار، طبعاً ماكانت قادرة على الانتصار بوسائلها الضعيفة نسبياً تجاه قوة العسكرية الاستعمارية، ولكن حتى لو انتصرت، فإنها ستقيم دولة قبلية معرضة لمختلف الهزات، ومنها الهزات الاستعمارية.

بالمقابل كانت ثورة 1945 الجزائرية .... لعوامل انتصارها، لأنها حركة تحررية، ولأنها استقطبت الشعب الجزائري كله، ولأنها تحالفت مع قوى التقدم في الخارج، كل ذلك أدى إلى إقامة الدولة الجزائرية التي لعبت دوراً مميزاً في الستينات والسبعينات من القرن الماضي على الأصعدة العربية والأفريقية والعالمية، ومن المؤسف أنها انتكست، وانتكس دورها بعد مجيء الإدارات الرجعية، التي تلت أبو مدين.

المقاومة الجزائرية في القرن التاسع عشر كانت ستؤدي إلى وضع قبلي، ولذا كان محكوماً عليها بالفشل التاريخي حتى ولو أقامت دولة، مثل هذه الدولة ستكون مثل مثيلات عديدة غيرها هامشية بالنسبة للمجتمعات العالمية، ومعرضة باستمرار للغزو مجدداً.

أما المقاومة الجزائرية في 1945، فقد أدت إلى دولة قادرة على صد العدوان وليست هامشية بالنسبة للعالم الثالث، ولولا الانتكاس الرجعي، كانت تؤلف مركز استقطاب أفريقي هام.

يتمنى المرء أن تتصدى المنظمات السياسية التقدمية للاحتلال وللاستعمار في الحديث والجديد، ولهيمنة الإدارة الأمريكية في كل مكان، وتأخذ بذلك زمام المبادرة، لكن مع الأسف حصل خراب كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الخراب يتمثل في مختلف الرواسب التقليدية، التي توظف بشكل موضوعي لصالح الأنظمة القديمة للمجتمعات، ولصالح الرأسمالية في نهاية المطاف. وعندما يجري تمويل وتفعيل تلك الرواسب، يصبح الخراب أكبر بكثير كما هو حاصل الآن.

في الأراضي الفلسطينية المحتلة يهدر الدم بغزارة، وتصادر الأراضي والمياه وتهدم البيوت. أما المطالب السياسية، التي تسبح الأطر القيادية الفلسطينية فيها فهي مؤلمة، ومنها حل مسألة الحكم أو السيطرة في غزة بعد إنجاز فك الارتباط الشاروني، أي وهم في أن العسكرية الإسرائيلية سوف تنسحب من غزة. الانسحاب لايتفق مع التوغل اليومي ومع هدم البيوت وتجريف الأرض ومع المعارضة الليكودية الشرسة لأي انسحاب ولأي إخلاء للمستوطنات، ومع برامج الاستيطان الإضافية في الضفة، هل تلك الأطر القيادية مخدوعة أم ..؟! ومن المطالب السياسية تسليم الشرطة الفلطسينية أسلحة من أجل حفظ الأمن، هل هذا مطلب لصالح القضية الفلسطينية بأي شكل، هل حفظ الأمن الإسرائيلي بأيد فلسطينية هو مطلب وطني؟

وخريطة الطريق؟ ألم تشعر الأطر القيادية الفلسطينية ذات العلاقة حتى الآن، أنها نكتة أمريكية تكلف الفلسطينيين دماً غالياً؟ كل الإبادة الجارية حالياً للفلسطينيين هي من أجل تنفيذ خريطة الطريق، هي «دفاع إسرائيلي عن النفس» وهي لضمان أمن إسرائيل، وبعدئذ تأتي جزرة الدولة الفلسطينية، التي لو تحققت (؟) لن يكون الوضع فيها إلا أسوأ من الوضع الحالي. ألا توجد اليوم دولة فلسطينية؟ رئيس ورئيس وزراء ومجلس تشريعي وقوات أمن، إلخ...

هل هذه المطالب السياسية هي مايدفع الشعب الفلسطيني ثمناً له من دمه الغالي ومن أرضه ومن سكنه ؟

ويصدر عن الأطر القيادية الفلسطينية بين فترة وأخرى أن المطالب هي دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 مع حق العودة، إلخ، لابأس. ولكن هل الطريق إلى ذلك هو الإدارة الأمريكية؟ أو حتى المخابرات الأمريكية، أو هل الطريق إلى ذلك حفظ أمن إسرائيل بأيد فلسطينية؟

أيضاً من الواضح وجوب أن تستهدف المقاومة بناء المستوطنات، وبناء السور، والوجود العسكري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، لا الحافلات في تل أبيب، وأن تعتمد المقاومة على شبان مناضلين، لا على أمهات يجبرن بشكل أو بآخر على تفجير أنفسهن، أو على فتيان مايزالون بسن اللعب، والنضال هو أن يخسر العدو مقابل خسارة الصديق، لا أن تذهب التضحية جزافاً.

المقاومة العراقية، يتمنى المرء أن تتحول، أو أن تكون بذاتها مقاومة وطنية، أي مقاومة يشترك فيها بأخوة كل العراقيين، ومن الجملة العراقيون الأكراد، لكنها، كما يبدو، هي حتى الآن طائفية، وإذا كان هذا هو الواقع، فإنها تفتقر قبل كل شيء إلى البرنامج الوطني. ولكن هناك ماهو أسوأ من ذلك، الصيغة الطائفية والعنصرية تخلق الفوضى والجريمة، أراد أصحابها أم لم يريدوا.

من فجر الكنائس؟ هل هو التعصب الطائفي؟ أم قوات الاحتلال، كي تسبب التوتر الطائفي؟ يحكى أن قوات الاحتلال توقف سائقي شاحنات بريئين وتضع بحجة التفتيش دون علمهم متفجرات في شاحناتهم لتفجرها عن بعد فيما بعد ضد أهداف عراقية محددة. ربما الاعتداء على الكنائس تم بهذه الطريقة، وربما أيضاً أدى التعصب الطائفي إلى ذلك الاعتداء، ولايمكن في الاحتمالين، إلا أن يعتبر ذلك جريمة بحق الشعب العراقي، وبحق المقاومة.

ويشم المرء من خلال الأخبار اغتنام الوضع المتردي للبلاد من أجل التصفيات الفردية أو الطائفية أو العشائرية وهذا أيضاً يؤلف جرائم ضد الشعب وضد المقاومة.

كل ذلك بسبب الهيمنة الطائفية، التي تخلق الفوضى المضافة إلى فوضى الاحتلال، والتي توفر الجو لارتكاب مختلف الجرائم وتشويه ... المقاومة.

من هم خاطفو السائقين أو العمال البريئين؟ هل هم المتعصبون طائفياً؟ أم عناصر غريبة عن المقاومة وتقوم بذلك بشكل مقصود. هل ذبح عامل أو سائق هو نضال؟ ومن أي زاوية، يمكن أن يقال للعامل أو للسائق، اترك عملك وارحل، أو تتعرض للهلاك، لأنك تخدم الاحتلال أما قتله فهو جريمة.

إن أي إنسان شريف يؤيد نضال الطالبانيين ضد الاحتلال في بلادهم، ولكن هل هناك أفق معقول لذلك النضال الذي يريد أن يرجع بالبلاد قروناً إلى الوراء. يتمنى المرء أن يلتف الشعب الأفغاني حول برنامج وطني غير طائفي وغير قبلي لمحاربة الاحتلال والاستعمار، فمن دون ذلك لايحصد الشعب سوى الصراعات القبلية، مثلما يجري حالياً، ولايستطيع إلا أن يخدش الاحتلال والاستعمار.

الصوماليون ليس لديهم حالياً احتلال منظور، ولكل هل يستطيعون بناء دولة مع صراعاتهم القبلية والعبثية.

إنهم مثال مجسد على مايمكن أن يؤول إليه طرد الاحتلال في إطار طائفي ـ عنصري ـ قبلي.

البرنامج الوطني ومحاربة الاستعمار ووحدة الشعب في المقاومة هي الركائز الثلاث للتحرر، ومن دون ذلك لاينتج في حالة الانتصار سوى صوملة البلاد.

 

 ■ محمد الجندي

معلومات إضافية

العدد رقم:
228