ليست أسوأ أسرار المخابرات المركزية الأمريكية
تعتمد تبرئة السياسة الخارجية الأمريكية على معطيين «الجهل وحسن النوايا»، ترتكز عليهما الوثائق والأبحاث والمقالات التي تهاجم السياسة الأمريكية ظاهراً لكنها في الجوهر تبرر ما تقوم به من ممارسات إجرامية. ومن الملفت للنظر أن الآلية نفسها تتبع في صحف العدو الصهيوني، وإعلامه، حيث نجد غولدشتاين يهاجم من قبل مواطنيه «الأكثر إنسانية» على فعلته، لقيامه بمجزرة الخليل، ولكن ماذا يمكن أن يقال أكثر من إنه مجنون، وبالطريقة ذاتها نجد أن الجواسيس النازيين «خدعوا» الإدارة الأمريكية و«أقنعوها» باستخدامهم كي يحموا شبكاتهم وأفرادها من الملاحقة بعد الحرب العالمية الثانية.
الأفعى تبتلع الجرذ
اعتمدت المخابرات الأمريكية لتبرير تعاونها مع النازيين تبييض صفحتهم على أساس أن «فضائلهم كثيرة ولكن ما يعيبهم هي أن سمعتهم سيئة No Problem». المهم ألا تنكشف الحقيقة، فأن تُلام المخابرات الأمريكية على غبائها أفضل من أن تُنتقد على سوء فعلتها بالتحالف مع النازية. وهي الطريقة التي يتبعها عادة الإعلام الغربي لكي يعد الناس أنفسهم، سواء عن وعي أو دون وعي، للتعامل مع أفعال وممارسات الدولة العظمى على أنها محايدة وإنسانية الدوافع، و إذا ناقش المرء تعاون المخابرات الأمريكية مع النازية على أساس أن واشنطن كانت مخدوعة ولا تعرف عنهم شيئاً فسوف يكون آمناً من أي هجوم عليه. ولكن إذا تجرأ المرء على مجرد القول بأن كوابيس السياسة الخارجية الأمريكية «الإنسانية» كانت مخططة ومعدة، فإنه سيصبح عندها إما تآمرياً أو متطرفاً أو أسوأ!
ومع الانتشار الواسع للبرامج التلفزيونية والأفلام الأمريكية التي تُظهر صورة السياسيين الأمريكيين على أنهم أبرياء، طيبو القلب يمكن التلاعب بهم وخداعهم بسهولة، لكنهم أقوياء ضد الباطل، يتكون رأي عام مسبق لدى الناس بأن حكومة الولايات المتحدة ليست سوى «دب هائج مترنح» لا يقصد الاصطدام بالأبرياء الذين يموتون تحت ثقل ضرباته.
لقد استفادت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية من المعلومات التي راكمها سابقاً ضباط مكتب التحقيقات الاستراتيجية الذي كان طرفاً في حرب الجواسيس الدائرة في أوروبا، حيث عرف جواسيسهم بكل الجرائم التي ارتكبها النازيون وأرسلوا تقاريرهم إلى واشنطن التي لم تتورع عن إعادة تنظيم هؤلاء النازيين أنفسهم لتدعيم جهاز مخابراتها الوليد، مما يعني أن القوى المسيطرة في الولايات المتحدة الأمريكية قد قررت أن تصبح وكالة المخابرات المركزية منظمة نازية من حيث الجوهر. فكان ابتلاع هذه الوكالة الصغيرة نسبة لجهاز المخابرات النازي الضخم والمنظم بشكل جيد أشبه بابتلاع أفعى نحيلة لجرذ سمين.
تنقيح الوثائق
إن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال وكالة المخابرات المركزية مع النازية ومجرمي الحرب النازيين، كانت جزءاً من حقائق كشفتها الوثائق التي أخرجها الكونغرس للعلن قبل ثلاث سنوات، والتي تبحث في جرائم الحرب التي ارتكبتها النازية، وتكشف كنزاً من أسرار وكالة المخابرات المركزية في خلال الحرب الباردة، حيث استخدمت شبكة واسعة من العملاء النازيين في حربها السرية ضد الاتحاد السوفييتي، وكان منظر النازية «إيميل أوغسبرغ» وأحد قادة قوات الـ « s.s »، والذي نفذت وحدته ما يسمى «بالمهمات الخاصة» كتعبير عن عمليات إبادة واغتيال «غير المرغوب فيهم» أثناء الحرب العالمية الثانية، أحد عملاء وكالة المخابرات المركزية والتي استخدمته في أواخر الأربعينات كخبير في الشؤون السوفييتية، متجاهلة كونه مطلوباً في بولونيا لارتكابه جرائم حرب، كما أنه كان ضمن مؤسسة مجرمي الحرب النازيين التي أعادتها الوكالة للحياة مجدداً بعد استسلام ألمانيا لقوات الحلفاء. فالأولويات الأمريكية تقتضي التركيز على الاتحاد السوفييتي لإنهائه. وإذا كان أكثر القادرين على ذلك هم مجرمو الحرب النازيون، فإن مسؤولي الولايات المتحدة يغضون نظرهم عن جرائم وتمويل الكثير من رجال الرايخ الثالث تحت ستار الحملة ضد الشيوعية، وفي الطرف المقابل كان التعاون مع المخابرات الأمريكية فرصة ذهبية لمجرمي الحرب النازيين كي يفلتوا من العقاب.» لقد كان الرابحون الحقيقيون من تسارع الصراع بين الغرب والشرق بعد الحرب العالمية الثانية هم مجرمو النازية». هكذا يزعم «إلي روسنبوم» مدير مكتب التحقيقات الخاصة في المحكمة العليا، عضو لجنة مراجعة الوثائق، والتي أصدرت 18000 صفحة منقحة من وثائق الوكالة المركزية تدل على أن العديد من مجرمي النازية نال عقوبات خفيفة، وآخرون لم يعاقبوا إطلاقاً، بل أن الكثيرين منهم تلقوا تعويضات لأن أجهزة الجاسوسية الغربية اعتبرتهم مفيدين خلال الحرب الباردة. مما دفع «اليزابيث هولتزمان» أجد المستشارين الذين راجعوا الوثائق، وعضو الكونغرس السابقة، إلى وصف الوثائق بأنها «ليست مجرد وثائق تاريخية محفوظة بما تثيره من أسئلة جدية عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية وأسباب نشوء الحرب الباردة».
جاسوس الجواسيس
في الجانب الألماني كان اللاعب الأساسي في التعاون المخابراتي الأمريكي - النازي الجنرال رينارد غيهلن، الذي كان جاسوس هتلر الرئيسي ضد السوفييت. وهو الذي أدار كل عمليات الجاسوسية العسكرية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية. إضافة إلى أنه لم يكن جاسوساً أوحدَ، ولم تكن مهمته تجميع المعلومات فقط، وإنما كان القائد الأساسي لعمليات مجموعات الفاشيين في المناطق المحتلة من أوروبا الشرقية، مثل «الحرس الحديدي» في رومانيا، و»فاناغيس» في لاتفيا، و»أوستاش» الكرواتية، وهي المجموعات التي ارتكبت أفظع الجرائم وأكثرها وحشية ضد الصرب والسلاف والغجر والمسيحيين الأرثوذوكس، وكل المعادين للنازية شيوعيين وغير شيوعيين، بما فيهم القوى الوطنية التي قاومت النازية. باختصار كان غيهلن قائداً لمجرمي الحرب.
ومع اقتراب الحرب من نهايتها أدرك غيهلن أن التحالف الأمريكي السوفييتي سوف ينتهي، وأن الولايات المتحدة لا تملك أدوات كافية لها في أوروبا الشرقية، فاستسلم للقوات الأمريكية عارضاً خبراته التي يستطيع من خلالها تقديم خدمات جليلة في المعركة ضد الشيوعيين. إضافة إلى أرشيف المعلومات الجاسوسية الضخم عن الاتحاد السوفييتي. وتعهد بإعادة إحياء شبكة سرية تمرست في العداء للشيوعيين منتشرة في كافة أنحاء الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية. فتجاوزت أمريكا معاهدة يالطا التي تنص على تسليم الأسرى من الضباط والجنود الألمان المتورطين في نشاطات معادية للاتحاد السوفييتي، فأبعدوه إلى حصن هانت، ومن هناك رتب مدير المخابرات المركزية الأمريكية نقله سراً إلى الولايات المتحدة كي لا يقبض عليه السوفييت ويحاكموه على جرائمه، وحال وصوله إلى الولايات المتحدة التقى به مجموعة من كبار ضباط المخابرات المركزية الأمريكية بما فيهم آلان دالاس الذي كان قبل عشر سنوات من هذا قد أنشأ بالتعاون مع أخيه جون فوستر المطلع على الأسواق المالية مؤسسة تمويل مخابراتية لتمويل ومساعدة النازيين، وخططوا معاً لكابوس مرعب تمثل ببناء جهاز تدميري - جاسوسي في أوروبا، تديره واشنطن ويتركب قوامه من مئات مجرمي الحرب النازيين، الذين صاروا آلافاً فيما بعد. وهكذا ربما خسر النازيون الحرب ولكن ربحت النازية حياة جديدة.
منظمة «غيهلن»
وعندما أعيد غيهلن إلى ألمانيا الغربية عام 1946 مفوضاً بإعادة بناء شبكة التجسس ضد الدول الشرقية لصالح المخابرات الأمريكية وتحت إمرتها، بدأ نشاطاته قرب ميونيخ بتجنيد الآلاف من عملاء الغستابو وجنود القوات الخاصة السابقين، حتى السيئ منهم والخسيس، بمن فيهم المسؤولون الرئيسيون في أجهزة السلطة النازية عن تنفيذ المجازر والذين لاقوا الترحاب في ما سمي بـ «منظمة غيهلن»، وكان من بينهم ألويس برونر، وأدولف إيخمان، ورائد القوات الخاصة إميل أوغسبرغ، والنقيب في الغستابو كلاوس باربي الذي كان يُعرف باسم «سفاح ليون».
تفضح العلاقة القديمة بين وكالة المخابرات المركزية والنازيين حقيقة نشوء الحرب الباردة ومصدرها الحقيقي كما تبين كذب ادعاء الغرب بأن «السياسة العدوانية السوفييتية» كانت السبب الأساسي لاندلاع الحرب الباردة، وتنفي أن عام 1946 هو عام بداية الحرب الباردة. وتبين أن واشنطن قد بدأت هذه الحرب في وقت أسبق. ولم تفعل بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن تابعت طريقها كما بدأته باستخدام ألمانيا والنازيين ضد الاتحاد السوفييتي. ومازال الجهاز النازي واسع الانتشار حتى اليوم في أوروبا الشرقية والجنوبية (وروسيا طبعاً) رغم انحسار الدور السوفييتي.
دروب الجرذان
كما أن الخارجية الأمريكية لم تستخدم النازيين لأغراض التجسس فقط،حيث أنقذت المجرمين النازيين، وأنشأت شبكة واسعة منهم في أوروبا كلها من أجل التجسس وبناء مجموعات من الشبكات الفاشية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية (والألمانية) للتغلغل في دول أوروبا الاشتراكية وغير الاشتراكية، بهدف التخريب والتدمير، ومن أجل تجهيز القوى اللازمة للسيطرة على الدول الاشتراكية. كما قامت واشنطن منذ انتهاء الحرب بالعمل مع موظفي الفاتيكان لتنظيم سبل ودروب تهريب النازيين الذين كان بعضهم جواسيس عملاء، والآخرون مجرمي حرب، وتم إعطاء طرقات تهريبهم التسمية الملائمة لها «دروب الجرذان»، التي بدأت في أوروبا الشرقية والبلقان، خاصة كرواتيا، وصبَّت في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوستراليا وأمريكا اللاتينية.
ومن ناحية أخرى كان أعضاء منظمة غيهلن مفيدين جداً في لملمة الفاشيست الهاربين وايجاد الملاذ لهم خارج البلاد و بعلم أجهزة المخابرات الأمريكية، التي كانت تغض الطرف عنهم. وقد تجند الكثير منهم فيما بعد كمخبرين في المنافي أو كخبراء أمن في العديد من دول أمريكا اللاتينية، حيث فرق الموت التابعة للقوى اليمينية المتطرفة تشكل امتداداً لتراثهم الدموي. ففي بوليفيا مثلاً قام كلاوس باربي بمساعدة العديد من الحكومات العسكرية المتعاقبة في تدريب الجنود على تقنيات التعذيب، كما قدم مساعداته في إنعاش تجارة الكوكائين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات.
كان هدف واشنطن هو القضاء على الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الاشتراكية، وجعلها تحت الهيمنة الأمريكية. فصوروا النازيين على أنهم أذكياء معتدلين يحترمون النظام الرأسمالي، وهذه فضيلة الفضائل، حتى ولو كانوا عنصريين يحتقرون الشعوب الأخرى صرب كانوا أم سلافيين أم غجر، ممن قرروا مقاومة الهيمنة الأمريكية. ولشدة احتقارهم للشعوب الأخرى فقد أبدعوا بأداء مهماتهم في التدمير والقتل والاغتيال والتعذيب.
ليس هذا سوى جزء من تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية «الجاهلة، الطيبة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 166