الباحث الفرنسي هنري لورنس: الشارع العربي... يرفض «الديمقراطية» الأمريكية
٭ التناقض بين الأنظمة والمجتمعات العربية لم يكن يوماً بهذه القوّة
٭ الحكومات العربية واعية لضعفها لكن مصالحها تدعوها للبقاء
٭ خبراء الشأن العربي في أميركا أبعدتهم قوى الصهيونية
٭ أميركا إمبراطوريّة لا تتوصّل إلى تجذير نفسها في صفوف الشعب
يعتبر هنري لورنس من أهم الدارسين لتاريخ العالم العربي المعاصر في الغرب ويعمل حالياً أستاذاً في الـ(كوليدج دو فرانس)، شغل منصب مديرٌ لمركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر في بيروت. من مؤلفاته كتاب بعنوان: المسألة الفلسطينية، كما نشر له مؤخراً كتابٌ بعنوان شرقيات، تناول فيه حملة نابليون على مصر ثم الجمهورية الثالثة والإسلام. في هذا الحوار الذي تعرض قاسيون لجزء منه، يقدم الباحث الفرنسي وجهة نظره عن علاقة العرب بالأمريكين وشكل هذه العلاقة وتطورها:
بالرغم من العلاقات القديمة بين المنطقة وأميركا، لماذا لا يفهم الأمريكيون العرب؟
كان لدى الولايات المتحدة خبراء في العالم العربي. وكانت الجماعة المرتبطة بالعالم العربي تملك خبرة ودراية كبيرة بشكل المجتمعات العربية وخصوصياتها انبثقت من أجيال تنحدر من الوسط التبشيري في بيروت منذ عقود. تجدهم في شتى المجالات CIA، وزارة الخارجية،، والجيش وغيره. لكنّهم اعتُبروا في وقتٍ مبكر من القرن الماضي خصوماً للصهيونية، فخضعوا لضغطٍ من المجموعات المؤيدة لإسرائيل واستبعدوا. وقد أدّى ذلك إلى نقصٍ معيّن في الخبرة. بالإضافة إلى ضعف النظام الجامعي. فلدى أميركا أغنى الجامعات، غير أنّ غياب تعليم جميع اللغات الشرقيّة في المرحلة الثانوية يجعل تأهيل المستعربين يتأخر كثيراً.
هل يفسّر هذا الأمر الوضع في العراق؟
إنّ الأمريكيين يعرفون المعايير التي كان بوش الأب قد حلّلها بوضوح في العام 1991: استحالة احتلال العراق بصورةٍ دائمة بسبب أخطار حدوث حرب عصابات وإقامة جمهوريّةٍ إسلاميّةٍ شيعيةٍ ودولةٍ كرديّة تزعزع في حال قيامها استقرار تركيّا. الأمر ليس نقصاً في المعارف بالمعنى الحرفي، بل علاقةٌ مشتركة بين القرار والوهم السياسيين.
هل كان هذا الوهم حاسماً في اندلاع الحرب؟
يبدو لنا أنّه توجد لدى المحافظين تناقضاتٌ ثقافيّة، على الأقلّ حول مفهوم الديموقراطية. في الواقع، يبدو أنّ الولايات المتحدة تعتقد أنّ العراق وقد كنس ما بقي من الدولة، أي النظام القمعي مجتمعاً محطّماً نفسيّاً وفيزيائياً. إنّ التدمير النفسي لذلك المجتمع أثناء الحصار وخسارة طاقاته المعنوية أو المدنية المنهارة بسبب نظام صدّام الهمجيّ من جهة والحصار من جهةٍ أخرى هو السبب في ذلك الانهيار.
العراق محتلّ، وفلسطين مدمّرة، وزعماء الدول العربيّة عاجزون؟
إنّ الحكومات واعيةٌ لموازين القوى، أكثر من الرأي العام في بلدانها. وتعرف أنها ضعيفة اقتصادياً، وقد أظهر العراق أن أجهزتها العسكريّة، يمكن أن تسقط أمام سيل من النار. لكن لهذه الحكومات مصالح تدافع عنها. وهي في الوقت نفسه واعية للمسافة التي تفصلها عن الرأي العام في بلدانها الذي هو أكثر تصلّباً بكثير. المفارقة أنّ البنيان الهشّ يقف لصالح الحكومات. إذ إنّ تجذير الرأي العام الذي ينساق نحو معاداة أمريكا يجعلها لا تطالب بـ «إحلال الديموقراطيّة» الذي تريده أمريكا كي لا تبدو خاضعةً للصفارات الأمريكية.
هل يخشى أن يصبح هذا الأخير حلاً شاملاً؟
لا، فهناك أيضاً ستار أكاديمي في لبنان فقد عاد العالم العربي ليصبح فضاءً للنقاش بفضل القنوات الفضائيّة، سواءً في مجال المعلومات، في سباقٍ بين الأخبار العاجلة والإعدامات وبن لادن... على قناتي الجزيرة والعربية والحرة، بالإضافة إلى برامج تعتمد على التحدّث بصراحة، يديرها أفضل الصحافيين العرب.
مع مسايرتها للرأي العام، فإنّ هذه القنوات تحرّض كذلك على أشكال الحرمان؟
لكنّ الفارق الأساسيّ بين هذه القنوات ومحطات الحقبة الناصرية هي الصور. طالما أنّه لم تكن هناك صور، كان بالإمكان بناء أكاذيب ضخمة. إنّ البحث عن الخبر العاجل، حتى لو كان فظّاً، يجعل الناس يعيشون الواقع، وابتعدوا عن الخطاب الحماسيّ في الستينات.
هناك مشكلةٌ أساسيّة، وهي أنّ التناقض بين الأنظمة والمجتمعات لم يكن يوماً بهذه القوّة. الشعوب العربية فتيّة: 40% من أفرادها تقلّ أعمارهم عن 15 عاماً. والحال أنّه إذا كان هناك حكّامٌ شبّان، وإذا كان عمر التكنوقراط الوسيطين يتراوح بين 40 و50 عاماً، فإنّ جهاز الدولة لا يزال في يد أشخاصٍ بلغوا من العمر عتيّاً. يبقى أنّ هذه الأنظمة، رغم فسادها، توفّر خدماتٍ عامة لا تزال تعمل على نحوٍ ما.
وهل يجد المرء هذا الجوّ في الشارع؟
الشعور المهيمن هو شعور العداء القويّ للولايات المتحدة. لكنّ العلاقة ملتبسة: فأميركا، مثلها في ذلك مثل الغرب، هي أمرّ معقّد بالنسبة للشعوب العربية. وهي مرفوضة لأنّ الناس يرغبون في أن يذهبوا إليها ولأنّها ترفض ذهابهم إليها... هناك مطاعم ماكدونالد في العواصم العربية الرئيسية وعددٌ من الجامعات الأمريكية، أو شبه الأمريكية. المشكلة أنّها ليست وحيدة اللون وأنّها مصنوعةٌ من تناقضاتٍ. ويعبّر الالتباس عن نفسه كذلك تجاه أوروبا: هناك رغبةٌ في أن يفعل الأوروبيون المزيد، لكنّهم يلومونك على احتلال الجزائر، والحملات الاستعمارية، ووعد بلفور، ومنع الحجاب، قبل أن يطالبوك بـ «الضغط على إسرائيل وعلى الأمريكيين»! في واقع الأمر، فإنّ الولايات المتحدة تخدم القضيّة الأوروبية: لولاها كشرٍّ كبير، لكنّا نحن أيضاً على لائحة الضغائن. والأكثر إقلاقاً في الواقع هو قوّة نزعةٍ قوميّة ناتجة عن الإحساس بالكرامة، ذات أساسٍ متشابه على نحوٍ كبير، تتغذى من تلك الضغائن. والصعوبة تكمن في الإقرار بأنّ النزعة القومية والإدارة التعدّدية والتوالي على السلطة يمكن أن تكون متوافقة مع بعضها بعضاً.
هل تتعلّم أمريكا من أخطائها؟
يكثر الحديث عن إمبراطوريّةٍ أمريكية. إنّها إمبراطوريّة لا تتوصّل إلى تجذير نفسها في صفوف الشعب. الولايات المتحدة تمرر تسوياتٍ مع حكومات، وليس مع المجتمعات، إنّ الأمريكيين لا يستوعبون واقع أنّ أكثر من مليون منهم، من ذوي الثقافة الإسلامية أو العربية، يمكنهم أن يكونوا وسطاء... إنهم ينظرون إلى النزاع في الشرق الأوسط على أنّه مشكلة داخلية، لا بل مشكلة هويّة، أكثر منه مشكلة سياسةٍ خارجية. إنّ التوراتية، والتحالف مع إسرائيل يؤدّيان إلى أنّهم ليسوا في وضع منفصل، كما كانت عليه الحال في فيتنام... فإنّ إعادة تقييم الوضع سوف تؤدّي بالضرورة إلى إعادة تكوين على المستوى الداخلي، وربّما كان ذلك أصعب الأمور.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 225