على المحك فلنغيّر دفّة الصراع
ما يجري في لبنان أبعد اتساعاً من كونه حرباً على حزب الله فحسب. كل هذا الدمار والإجرام لآلة الحرب الإسرائيلية، الذي فاق كل حروبها السابقة على هذا البلد، لا يمكن تفسيره فقط بمخطط أميركي – إسرائيلي لتركيع «الّلا» المقاومة في المنطقة وإلغائها على نحو كلّي.
حتماً إن هذا التفسير منطقي وجاد وعلمي..
لكن هنالك ما هو أبعد من ذلك..
وهذا ما يمكن تلمسه في قراءة مبسطة لما يجري في المجتمع الإسرائيلي.
فطوال عقود من تاريخ هذا الكيان، لم تكن حركات السلام ورفض الحرب بهذا الضعف الذي هي عليه اليوم.
والتضامن الذي يبديه الإسرائيليون خلف قرار الحرب – حتى أنهم سبقوا في اليومين الأخيرين جموح السياسة الأميركية في إصرارهم على استكمال العدوان المجرم – كل هذا وغيره يؤشران على أن الصهيونية في إسرائيل باتت أكثر تجذراً في بنية المجتمع مما كان يتوهمه البعض داخل إسرائيل وخارجها.
عندما يوافق الإسرائيليون على اعتبار أن هذه الحرب تشبه حرب وجود بالنسبة لهم، يلتقون بذلك مع ما أعلنه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من أن إسرائيل ضغطت على زر فنائها بعدوانها هذا على لبنان.
طبعاً لن نبالغ إلى هذا الحدّ في الإضفاء على نظرة الإسرائيليين إلى حربهم (أو رؤية نجاد لها) هذا البعد بمعانيه السياسية أو العسكرية المباشرة.
فـ«فناء» إسرائيل لا يمكن تخيله لا على المدى المنظور ولا في المدى المتوسط، حتى لا نقول ما هو أبعد من ذلك.
إن ما يمكن أن نقوله ولو تلمساً هو إن إسرائيل كرّست في مجتمعها وعلى مدى عقود من الحكم العسكري والسياسي - الديني تربية عنصرية متقدمة لشعب لا مجال إلى إصلاحه أو «هدايته الأيديولوجية». على الأقل ليس الآن، ولا غداً.. ولا بعد غد.
فغداً، عندما تنتهي هذه المعركة، ومهما كانت النتائج السياسية أو العسكرية لها.. غداً، بمجرّد أن تهدأ آلة الحرب الإسرائيلية أو تستكين، سيبدأ العرب في مكان ما بالعدّ العكسي لحرب إسرائيل المقبلة. متى؟ وأين؟ وكيف؟
لا يهمّ بعدها إن حاربت إسرائيل نظاماً أو مقاومة. لا يهم إن وجّهت إسرائيل نيرانها إلى مدني أو إلى العسكر فقط. المهم «المصلحة العليا» للشعب الإسرائيلي، وديمومة هذا الكيان في المنطقة كياناً تُوكل إليه مهام، ويطلب من الموكلين اشتراطات والتزامات.
إن نهاية حرب إسرائيل على لبنان ستعني بداية حروب أخرى قد تتخذ أشكالاً عديدة.. لكن في جوهر الأمور سيواجه العرب إسرائيل جديدة. لا يهم أقوى أو أضعف.. ستكون حتماً مختلفة. سيصبح التهديد الإسرائيلي للمنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارهاً أكثر وضوحاً من أي يوم مضى.
عندها، وعندها فقط، ستجد شعوب المنطقة نفسها في وضع يحثّها على إعادة التفكير بآليات صراع فُرضت عليها منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وما تلاه – وما نقضه – من اتفاقيات تسوية منفردة لم تؤدّ سوى إلى المزيد من الخسارات على كل الأصعدة.
لذا يجب التفكير بتغيير آليات هذا الصراع. لم يعد مجدياً الحديث عن أراض محتلة وقرارات دولية فحسب.
فهذا الكيان الاستيطاني العنصري في أوجّ قوته اليوم يطرح علينا أجندة الصراع الجديد – القديم.
لن أغالي في التعبير لأذهب إلى دعوات الفناء والإمحاء..
لكنني لا أبالغ إن قلت إن وجود إسرائيل بحدّ ذاته بات اليوم أخطر من «احتلالها» لأي أرض عربية. إن الخطر اليوم ليس على بيروت أو دمشق أو حتى القاهرة وعمّان وغيرها من العواصم العربية والإسلامية. إنه خطر على الحياة الإنسانية والبشرية في كل هذه المنطقة.
هذا الخطر هو الذي يدعو اليوم إلى إطلاق التفكير بأبعد مما نحن عليه الآن.
ليس التفكير فقط بكيف نهزم إسرائيل في جنوب لبنان، فهذا ما تتكفل به المقاومة اللبنانية الباسلة وقيادتها الحكيمة للصراع. التفكير بماذا بعد يفرض الإجابة على سؤال أساسي: ماذا بعدما أطاحت إسرائيل بكل أشكال التسوية السلمية. هل نستسلم.. أم نغيّر دفّة الصراع؟ وللحديث صلة.