أمتار قليلة تفصل الامبراطورية الأمريكية عن الهاوية..

■ مؤتمر ماليزيا يعلن الحرب العالمية المالية على الدولار!..

■ الإعلام الأمريكي.. هل يخشى إضاءة القرارات الجديدة؟!..

لم تبدُ الولايات المتحدة يوما ً قوية وهشة مثلما تبدو اليوم.فمن جهة لديها قدرة عسكرية هائلة. وميزانيتها في هذا المجال تساوي مجموع ميزانيات أقوى خمسٍ وعشرين دولة في العالم بعدها. ناهيك عن الإضافات إلى الميزانية التي وافق عليها الكونغرس لتمويل الهجوم على العراق. ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة هشّة لأنّ هذه القوة العسكرية لا يضمنها اقتصادها، بل عملتها.

حرب وحشية.. ولكن «دون قتلى»

لو أمعنّا النظر، لوجدنا قدرة الولايات المتحدة تتميز بعدم فعاليتها. فهي لم تقم في السنوات الأخيرة بأية معركةٍ هامة، بل إنّها أظهرت بأنّها لا تقبل أيّ خصمٍ سوى من كان شديد الضعف. بل إنّ كولن باول نظّر لهذه الخشية حين كان رئيس أركان القوات المسلحة: فما أصبح يعرف بـ «عقيدة باول» يتمثّل في عدم الانخراط بأية معركة إلاّ حين يكون المرء متأكداً من الانتصار فيها. بعباراتٍ أخرى، وخلافاً للخطاب الرسمي، ترفض الولايات المتحدة أن تخاطر للدفاع عن أفكار ولا تقبل بالمعركة إلاّ حين لا تمثّل أيّ خطرٍ عليها. وهكذا، فقبل العراق وأفغانستان وكوسوفو، قاد الجنرال باول عملية «القضية العادلة» ضدّ بنما، وهي دولةٌ تقلّ تسليحاً عن أمريكا بـ 180 مرة. لكن كما كان كورنيّ يقول: «حين ينتصر المرء دون مخاطر، فإنّه ينتصر دون مجد».

كذلك، وبعد قضية الصومال، طوّرت الولايات المتحدة النظرية المسماة «الحرب دون قتلى». وهي تعني استراتيجيةً تتضمّن تجنّب أيّة معركةٍ قريبة، بحيث لا تتكبّد أيّة خسائر، مع تدمير أقصى ما يمكن تدميره من القوات المعادية. وهكذا، أصبح البنتاغون بطل القصف من ارتفاعاتٍ عالية. ويهتمّ طيّاروه بعدم تعريض أنفسهم لوسائل الدفاع الجوي. والنتيجة هي عدم سيطرتهم على أهدافهم، واستخدامهم لذخائر ذكية، أي قنابل موجهة بالصدى أو بالليزر، وهي قنابل مذهلة الدقة، لكن لا يمكن الوثوق بها كثيراً. فمقابل تسعةٍ منها تصيب هدفها بدقّةٍ شديدة، تضيع قنبلة، وتنفجر في مكانٍ لا على التعيين. تتميّز «الحرب دون قتلى» إذن بوحشيتها الشديدة بالنسبة للمدنيين.

لقد قام جورج دبليو بوش مؤخراً بحربين. في الأولى، التي جرت في أفغانستان، لم يتقابل الجيش الأمريكي مع الطالبان، بل تقابل زعماء الحرب الأفغان فيما بينهم. واكتفت الولايات المتحدة بشراء هذا الزعيم أو ذاك بملايين الدولارات وبتوفير الأسلحة. لقد أقامت اليوم قاعدةً هامة في باغرام، إحدى ضواحي كابول، لا تجرؤ قواتها على الخروج منها، لدرجة أنّ سلطة الرئيس قرضاي التي نصّبه الأمريكيون تتوقف على أبواب تلك الضاحية.

أما الحرب الثانية لبوش، أي حرب العراق، فليست أفضل على الصعيد العسكري. فقد قصفت الولايات المتحدة البلاد بآلاف الصواريخ، محدثةً، وفق تقديراتها هي، خسائر تفوق خمسين مليار دولار. ثمّ دخلت قواتها دون أن تقابل أيّة مقاومةٍ تذكر بفضل تواطؤ جنرالات صدّام حسين الذين جرى إفسادهم.

حين تغدو القوة بلا قوة!!

وراء هذه الحروب الترفيهية، فشلت قوة الولايات المتحدة حيث أرادت أن تفرض نفسها. ويتوجب اليوم على الجيش الأمريكي أن لا يواجه قوات صدّام حسين فقط، بل الشعب العراقي. وهو يتكبّد الخسائر في كلّ يوم. إذ بلغ عدد الإصابات في ستة أشهر عدة مئات من القتلى وآلاف الجرحى، أي أكثر بكثير مما حصل أثناء الحرب نفسها. البارحة، حصل اعتداء على الرجل الثاني في البنتاغون، بول فولفويتز نفسه. وانخفضت معنويات الجنود الأمريكيين إلى الحضيض. كما بلغ معدّل حالات الانتحار في صفوفهم مستوى غير مسبوق. لقد جرى تسريع التبديل بين الفرق، وتنظيم إجازات مع النقل الجوي المجاني إلى أوروبا. لكن كانت النتيجة ارتفاع عدد الهاربين. 

لم يعد الجنود الأمريكيون يؤمنون بمهمتهم. لقد أُشبعوا بالدعاية، وكانوا يظنون بأنّهم سوف يُستقبلون كمحررين للعراق، فاكتشفوا عداء السكان لهم. إنّ الطموح الإمبريالي للولايات المتحدة يرغمها على التحسّب لتجنيد عشرات الآلاف من الرجال في السنوات الخمس القادمة. لكن أين يمكن العثور عليهم حين يرفض نصف أولئك الذين يقومون بخدمة العلم أن يتطوعوا؟ لذلك، يجري تجنيد أشخاص من أمريكا اللاتينية، مع الوعد بأن تمنح لهم في النهاية الجنسية الأمريكية. كما يجري اللجوء بصورةٍ متزايدة للجيوش الخاصة. إنّ عُشر الرجال في قوات التحالف المتواجدة في العراق هم من المرتزقة وليسوا جنوداً نظاميين.

في هذا الأسبوع، وجّه دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع، مذكّرةً إلى أربعةٍ من كبار معاونيه، يطلب منهم فيها التفكير في بعض المسائل قبل أن يناقشها معهم. لقد وصلت هذه المذكّرة السرّية إلى صحيفة يو إس توداي، التي نشرتها. نقرأ في هذه الوثيقة اضطراب رامسفيلد الذي يسأل إن كانت الولايات المتحدة بصدد كسب «الحرب على الإرهاب» أم لا، وإن كان عدد الخصوم الذين تصفّيهم أكبر من عدد أولئك الذين تخلقهم. كما يتساءل إن كانت الترسانة الأمريكية، بدباباتها وحاملات طائراتها وصواريخها وقنابلها النووية، تستطيع أن تحارب بفعالية أولئك الذين يقاومونها. لقد أدرك رامسفيلد أنّ كلّ ما حضّرته الولايات المتحدة لسحق الاتحاد السوفييتي لم يعد ينفع اليوم في شيء، وأنّ أحداً لا يعرف كيف يمكن تكييفه مع الوضع الحالي، فاقترح إنشاء وزارة دفاعٍ جديدة بالإضافة إلى البنتاغون. 

عودة الى الذهب.. ذهاب الى اليورو..

مهما كانت الحال، لم تعد واشنطن تستطيع التراجع. وبالفعل، فإنّ بقاء الولايات المتحدة مهدّد، ليس بسبب عدوٍّ خارجي، بل بسبب ضعفٍ اقتصاديٍّ داخليّ وتوتراتٍ بين الفئات الاجتماعية المختلفة. لقد أدرك العديد من الناس الآن بأنّ قوة الولايات المتحدة تستند إلى وهم: الدولار. إنّه ليس سوى قطع من الورق الذي يطبعونه، وفق الحاجة، ويظن العديد من الناس أنّهم مضطرون لاستخدامها. 

منذ ثلاث سنوات، أدخل جاك شيراك وغيرهارد شرويدر فرنسا وألمانيا في حربٍ لا هوادة فيها ضدّ الولايات المتحدة. وقد أرسلا مبعوثين إلى جميع أنحاء العالم بهدف إقناع دولٍ أخرى بتحويل احتياطاتها المالية إلى اليورو. كانت أولى الدول التي وافقت على ذلك: إيران والعراق وكوريا الشمالية، أي بالضبط الدول التي وصفها جورج دبليو بوش حينذاك بأنها «محور الشر». 

من جهته، شرع فلاديمير بوتين في استعادة الاستقلال الاقتصادي للاتحاد الروسي. وسدّد مسبقاً الديون التي استلفها يلتسين من صندوق النقد الدولي. وكان عليه أن يسدّد، وبصورةٍ مسبقة أيضاً قبل نهاية العام، الديون المتبقية لصالح نادي باريس.

منذ فترةٍ وجيزة، أعلن بوتين بهدوء أنّه ينوي استعادة سيطرة الدولة على الثروات الطبيعية في بلاده. وذكّر بأنّ أباطرة المال قد حقّقوا ثرواتهم بين ليلةٍ وضحاها، وذلك باستحواذهم على جميع ثروات الاتحاد السوفييتي بالتواطؤ مع يلتسين. وأعلن أنّ الدولة يمكنها أن تستعيد من أولئك الأباطرة ما لم يكن ينبغي أبداً أن يوكل به إليهم. 

أثناء استقبال بوتين في مطلع تشرين الأول لغرهارد شرويدر، أشار إلى أنّه ربما يبدأ باستعادة السيطرة على الغاز والنفط، وإلى أنّه قد يحوّل أسعارهما من الدولار، كما هي الحال الآن، إلى اليورو.

من جهته، جرّب رئيس وزراء ماليزيا، مهاتير محمد، التخلّي عن الدولار في المبادلات الدولية، لكن لصالح الذهب. ووقّع اتفاقياتٍ ثنائية مع شركائه التجاريين. من الآن فصاعداً، سوف تسدّد قيمة الصادرات والواردات الماليزية بالذهب.

منعطفات جدية وخطيرة في القمة

مسلّحاً بهذه التجربة، عرض رئيس الوزراء الماليزي على البنك الإسلامي للتنمية خطّةً للقطيعة مع الولايات المتحدة. واستلهم الصدمة النفطية التي أثارها الكارتل العربي في العام 1974، فعرض إثارة صدمةٍ مالية حاسمة. تتمثّل الفكرة في تحويل سوق النفط الدولية إلى الذهب، وإحداث سقوطٍ فوريّ للدولار وانهيارٍ لاقتصاد الولايات المتحدة. عارضت المملكة العربية السعودية هذه الخطة في البداية، إذ أنّها تتعرّض لتهديدات المحافظين الجدد في واشنطن، لكنها انضمت إليها في النهاية. وقدّمها البنك الإسلامي للتنمية في قمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد مؤخراً في ماليزيا برئاسة الدكتور مهاتير محمد.

أقرّ عقد اتفاقاتٍ ثنائية تقدّر قيمها بالذهب بين الدول الإسلامية أثناء العام القادم. كما أقرّت دعوة الدول السبع والخمسين الأعضاء في المؤتمر الإسلامي إلى توقيع اتفاقٍ متعدد أثناء القمة القادمة، التي ستعقد في السنغال.

وأيّد الخطة فلاديمير بوتين، الذي حضر المؤتمر الإسلامي بسبب انتماء نسبةٍ كبيرة من الشعب الروسي إلى الدين الإسلامي. 

سوف يكون التخلّي عن الدولار أمراً طويلاً وصعباً، سواءً بالنسبة للأوروبيين أم بالنسبة للدول الإسلامية. وقد أطلقت حملةٌ دولية ضدّ الدكتور مهاتير محمد، الذي اتهم بإحياء معاداة السامية. ودعا هنري كيسنجر وكوندوليزا رايس الثري الروسي ميخائيل خودوركوفسكي إلى تحييد بوتين. غير أنّ هذا الأخير أمر بإلقاء القبض عليه وزجّه في السجن في نهاية الأسبوع الماضي.

مهما كان الأمر، فقد أعلنت الحرب المالية، وأصبحت الهيمنة الأمريكية مهدّدة على المدى المتوسط.

 

■ تييري ميسان