«كسر الشوكة الكوبية… مسألة شرف إمبريالي» لماذا لا تزال كوبا على دريئة الاستهداف الأمريكي؟

يقول أوغوستو زامورا، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعة مدريد المستقلة: «إن السبب وراء ذلك يعود إلى أن كوبا تشكل حالة فريدة لا يمكن لواشنطن احتمالها»..

ويورد زامورا بالأرقام أنه في العام 2003، جرى إعدام 1060 شخصاً في الصين، وفي الولايات المتحدة، أعدم حوالى 400 شخص منذ العام 1990، أي 35 شخصاً وسطياً في العام، أو 3 في الشهر. وحصلت مئات الإعدامات في المناطق الأخرى من العالم، دون ذكر الإعدامات غير الرسمية والمجازر التي ارتكبتها أجهزة الدولة في إفريقيا، والتي تمثّل جزءاً من المشهد السياسي العالمي.

ويتابع أستاذ القانون الدولي أنه وبصورةٍ عامة، تجري هذه الأحداث دون تعليق. وعدا بعض التقارير المفصلة والإدانات التي تصدرها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية، فإنّ إعدام البشر نادراً ما يمثّل عناوين الصفحة الأولى من الصحف، المليئة أصلاً بصور الدم والقتلى. 

وبالتناقض مع هذا الميل الطبيعي للصمت وعدم المبالاة، أحدث إعدام ثلاثة خاطفين لمركب في كوبا ضجة سياسية وإعلامية غير معتادة - كان مركزها في الولايات المتحدة، في حين جرت في إسبانيا تظاهرة أمام سفارة كوبا في مدريد، وشارك فيها وزراء في الحكومة وقادة من الحزبين الرئيسيين، وهذا أمرٌ نادر الحدوث.

ليس هذا هو المجال الوحيد الذي تعامل فيه كوبا كحالةٍ فريدة. فالنداءات المستمرة المطالبة بالديموقراطية في الجزيرة الكوبية تعطي الانطباع بأنّ كوبا هي البلد الوحيد في العالم الذي يسود فيه نظام الحزب الواحد، وبأنّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تطبّق القواعد نفسها على كافة البلدان التي لا تتوافق مع فكرتهم عن الديموقراطية.

الكيل بمكيالين

ليس هناك ما هو أبعد عن الحقيقة. ففي تونس، القريبة للغاية من أوروبا، أعلن الرئيس نفسه رئيساً مدى الحياة في العام 2002 عبر استفتاء وبـ 99.52 بالمئة من الأصوات، ومشاركة قياسية بلغت 94.5  بالمئة. لم تحتجّ أية حكومة أوروبية حتى الآن على هذا الخرق الانتخابي الصارخ.

وفي أثناء الانقلاب في فنزويلا في نيسان 2002، سارع سفير إسبانيا لتهنئة الرئيس المؤقت بيدرو كارمونا، وكانت إسبانيا والولايات المتحدة الدولتين الوحيدتين اللتين ساندتا الانقلاب، الذي دانته منظمة البلدان الأمريكية.

الأمر نفسه بالنسبة لمسألة حقوق الإنسان، التي تذكر بالنسبة لكوبا بمثابرةٍ تتناسب عكساً مع ما يحصل بالنسبة لبلدان أخرى. إنّ الهوس تجاه كوبا يشبه العقار المنوّم، كما هي الحال بالنسبة لهوس الولايات المتحدة بالحصول في كلّ عام على إدانةٍ لهذا البلد من لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. 

لم يحصل شيءٌ كهذا بالنسبة لكولومبيا على سبيل المثال، التي يسقط فيها كل عام عشرات آلاف القتلى في إطار العنف السياسي، وحيث يتم اغتيال أكبر عدد من النقابيين في العالم. كما لم يحصل بالنسبة لغواتيمالا، حيث يتم اغتيال مناضلي حقوق الإنسان، وتبرئ المحاكم عتاة المجرمين، دون أن ننسى دورات قتل الفلاحين والهنود الحمر في بوليفيا والمكسيك وبيرو.

يكاد يكون نسيان إفريقيا واجباً، وذلك بسبب اللامبالاة الكبيرة للبلدان الغنية أمام الفظائع التي تُرتكب ضد السكان، غير أنّ هناك مثالاً يتبادر إلى الذهن. ففي غينيا بيساو، جرى إعدام قائدٍ عسكريّ اتّهم بالتمرّد، ورمي نائب رئيس رابطة حقوق الإنسان في السجن. على الرغم من ذلك، وافق الاتحاد الأوروبي على منح غينيا بيساو قرضاً بلغ 80 مليون يورو في إطار التعاون الذي ربما تحركه المزايا الاقتصادية في مجال الصيد التي يتمتع بها الاتحاد في ذلك البلد. 

هناك أزمةٌ أخرى، هي وجود السجناء السياسيين. بطبيعة الحال، فإنّ أيّ محبٍّ للحرّية لا يستطيع أن يتحمّل سجن شخصٍ بسبب أفكاره. لكن هذه المشكلة موجودة في قرابة مائة بلد، ولأسباب أقل وضوحاً بكثير من تلك التي تذكرها كوبا.

والأمر أسوأ بكثير في غينيا بيساو، التي تتلقى كلّ عام مئات الملايين من اليورو من إسبانيا، يكرّسها الطاغية أوبيانغ لزيادة القمع وتغذية طغيانه.

المثال الأكثر دموية هو تركيا. ففي كانون الأول الماضي، قضت سجينةٌ سياسية شابة، نحبها بعد إضرابها عن الطعام، وكانت الثامنة والخمسين التي تقضي نحبها بهذه الطريقة في السجون التركية. ومنذ عام 1990، تمّ الكشف عن 4500 حالة تعذيب، وفي العام 2000، عثر على 65 جثّة من ضحايا المجموعات شبه العسكرية. وفي الوقت نفسه، تتواصل ملاحقة الأقلّية الكردية المحرومة من كافة حقوقها.

في كوبا تكمن الاشتراكية

هناك عددٌ كاف من الخبراء الذين يؤكّدون بحماس فشل الاشتراكية. إنّ هذه الانتقادات كانت ستكتسب حداً أدنى من الوزن لو أنّ أمريكا اللاتينية كانت قادرة على تقديم مثالٍ اقتصاديّ واجتماعيّ مشجّع بمواجهة كوبا. الأمر معاكسٌ تماماً. فعلى الرغم من الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة، وعلى الرغم من رفض كوبا للقروض وواقع أنها مرغمة على الدفع المباشر، وعلى الرغم من تحفّظات العديد من الناس، فإنّ كوبا لا تزال في طليعة القارة، بما في ذلك الولايات المتحدة، بالنسبة لكافة المؤشرات، في مجالات التعليم والصحة والمساواة. 

بالمقارنة مع المشهد المؤسف لبلدان المنطقة التي غرقت في البؤس والبطالة والجوع واليأس، تقدّم كوبا مؤشّرات يمكن مقارنتها بالبلدان الصناعية. الفارق أكثر وضوحاً إذا أخذنا بالاعتبار أنّ كوبا ليس لديها نفط أو موارد طبيعية يمكن استثمارها، على عكس المكسيك (التي يعيش 75 بالمئة من سكانها تحت عتبة الفقر وفق أرقام حكومتها(، أو كولومبيا، أو الإكوادور التي هاجر ثلث سكانها.

إنّ أيّة حكومةٍ في البلدان الغنية لم تتوصل إلى الإقرار بأنّ الرأسمالية قد أخفقت عملياً في المنطقة بأكملها وفي العالم في كلّ ما يتعلّق بمستوى حياة البشر. إنها لا تقول شيئاً، ليس لأنّ الفشل غير واضح، بل لأنّ مثل ذلك الاعتراف قد يمثّل تهديداً للعقيدة الحديثة، وأعني بذلك حتمية الرأسمالية بصفتها نظاماً. 

القلق الحقيقي

إنّ مصدر القلق الذي تمثله كوبا ليس مسألة الديموقراطية (يتمّ على الدوام تأييد الضربات الموجهة للحكومات المزعجة للحفاظ على المصالح غير الشرعية)، ولا هو تطبيق عقوبة الإعدام (تأتي الصين والولايات المتحدة على رأس البلدان التي تنفّذ تلك العقوبة)، ولا هو حقوق الإنسان أو الحرّيات المدنية (الصفاقة الغربية تدعو للبكاء).

إذا أردنا حقاً العثور على تفسيرٍ منطقيّ للتعامل الخاص الذي تعاني منه كوبا، علينا البحث خارج هذه الأطر. فقبل كلّ شيء، كوبا مزعجة لأنّ الولايات المتحدة لم تنجح في كسر شوكة الجزيرة بعد خمسةٍ وأربعين عاماً. كوبا شوكةٌ في حلق الإمبراطورية، مما يجعل من كوبا مسألة شرفٍ إمبريالي. كما أنّ كوبا رمزٌ يذكّر أمريكا اللاتينية والعالم أجمع بأنّه ليس من الضرورة أن يكون البلد قوةً عظمى كي يقاوم حصار الإمبراطورية. 

تكفي الشجاعة والكرامة للوصول إلى هذه النتيجة. وكما وضّح كارل دويتش، فإنّ بلداً ذا حكومة تتميّز بالقوة وشعباً لديه الدوافع الكافية يستطيع الحفاظ على استقلاله، حتى لو دفع الثمن الذي تتطلبه السيطرة عليه. 

هناك سببٌ آخر هو ارتباط كوبا بالنظام الاشتراكي الذي أعلنه فيدل كاسترو في العام 1961، وهو نظامٌ استمرّ رغم كلّ التوقعات وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي. من وجهة النظر الرأسمالية، تمثّل كوبا استثناءً خطيراً ينبغي عقابه، ويجب أن تعاد كوبا إلى الطريق الصحيح وتنخرط تماماً في العولمة الكوكبية.

وهكذا، يمكن لشركة الطيران الإسبانية إيبريا أن تشتري شركة الطيران الكوبية، ويذهب التبغ لشركة فيليب موريس، والنيكل للشركة الأنغلو أمريكية، والصناعة الدوائية لغلاسكو سميثكلاين، والنفط لإكسون، في حين تفتح شركة ماك دونالد فرعاً لها في وطن خوسيه مارتي. 

ثمّ تنظّم انتخابات شعائرية تعطي البلاد لأقليّةٍ فاحشة، تجد متعةً في نهب البلد وتوصل الغالبية العظمى من السكان إلى البؤس. كلّ ذلك بمساعدة الخطط الاقتصادية لصندوق النقد الدولي والسفير الإمبريالي الذي سيكون رأيه قاطعاً في المسائل السياسية ويرغم البلد على دفع الملايين كتعويضٍ لشركات ومواطني الإمبراطورية. 

بهذه الطريقة، نعم، يمكن لكوبا أن تعود إلى العالم الديموقراطي وتستفيد من كافة مميزاته. المشكلة هي أنّ الغالبية العظمى من الكوبيين غير متحمّسين لهذا النموذج، إذ أنّهم يدركون المصير المخصص لبلدان المنطقة. 

لا شيء يشير إلى احتمال انهيار النظام الكوبي على المدى القصير. لقد مرّت المرحلة الأصعب («المرحلة الخاصة»)، والمؤشرات الاقتصادية تظهر وجود تحسّن.

لقد انتقلت كوبا في تصنيف مؤشر التنمية البشرية من المركز السادس والثمانين في العام 1997 إلى المركز الخامس والخمسين في العام 2002. وتتوقع اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية نمواً بنسبة 5% في العام 2003، في حين وصل الاستغلال في مجال الطاقة إلى مستوى قياسيّ، كما تتواصل الإصلاحات البنيوية لأقلمة الاقتصاد الوطني مع الوضع الجديد بأقل ما يمكن من التأثير على الإنفاق في المجال الاجتماعي.

كما أنّ وضع كوبا في سياسة القارة قد تحسّن. لم تتمكن الولايات المتحدة من جعل منظمة الدول الأمريكية تدين كوبا، مما يشير إلى أنّ أغلب بلدان المنطقة لا تراهن على غرق البلد.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ العقوبات التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي مؤخراً سلبية وعقيمة، وتأتي في وقتٍ غير ملائم. فمن جهة، يعزز الاتحاد الأوروبي المواقف العدائية والمتطرفة للولايات المتحدة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ هذه الإجراءات لا تشجّع الحكومة الكوبية على الانفتاح، بل تقوّي الشعور المبرّر بكون كوبا قلعةً محاصرة، وتفاقم المشكلات الناتجة عن الحصار الأمريكي.

 

إنّها إذاً إجراءات غير مثمرة، لا يمكن تفسيرها إلاّ برغبة الاتحاد الأوروبي في مداهنة الولايات المتحدة بعد اعتدائها على العراق. لكننا معتادون على ميل الاتحاد الأوروبي للهجوم على الضعفاء لبثّ السرور لدى الأقوياء، حتى لو أدّى ذلك إلى إيقاع ظلمٍ كبير. ولنقل عرضاً بأنّ هذا هو ما ينتظرنا في القرن الحادي والعشرين.