أحمد طه النُقر قاسيون (بتصرف) أحمد طه النُقر قاسيون (بتصرف)

الشيخ إمام.. ما يزال يقود المظاهرات!!

كانت مصر على موعد مع التاريخ، عندما احتشد المئات من أبنائها في رحاب ضريح سعد زغلول على ضوء الشموع ليقولوا بملء أفواههم "كفاية" للاستبداد والقهر والطوارئ والتجويع والتعذيب وهتك الأعراض والتبعية والخنوع..شاهدت مصر ترقص طربا وفرحا بأبنائها الذين هبوا من نومة أهل الكهف بعد دهر أسود طويل من الوخم والخمول والصمت والصبر..ولما طال الليل ولم ينجل عن صبح كاشف نامت نواطير مصر عن الثعالب التي تسللت لاكل عناقيد خيرها فما انتهى الخير ولا شبعت الثعالب.. "نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد"..

أجيال مختلفة اجتمعت لتغني معاً لحن الوطن..الصوت الأعلى وربما الأوحد كان لأغنيات انتفاضة الطلبة في مطلع السبعينات التي أبدعها شاعر مصر الفذ احمد فؤاد نجم ولحنها وغناها الشيخ إمام عيسى، مطرب مصر (العشة وليس القصر) الذي غنى للثورة وللفقراء وللعدل والحرية في كل مكان.. كان الشيخ إمام هو الحاضر الغائب في مظاهرة الشموع يوم الأربعاء...ألحانه وأغنياته رددتها على مرأى ومسمع من العالم كله، أجيال مختلفة يقودها الكهول من زعماء انتفاضة الطلبة في مطلع السبعينات.."أنا شفت شباب الجامعة الزين..أحمد وبهاء والكردي وزين..حارمينهم حتى الشوف بالعين وفي عز الضهر مغميين..."

في رحاب ضريح سعد، رأيت الأديب الكبير بهاء طاهر الذي جاء متحاملا على نفسه ومتحديا مرضه ليرفع شمعة علها تنير لنا الطريق عبر ظلام دامس ران طويلا على القلوب والعقول قبل الأعين، وعجز قلمه وأقلام النخبة من أبناء جيله في دفعه ومقاومته لأنه ظلام بهيم تسربل بعباءة التزمت وحماه جهل وقهر وكبت الحكومات المتعاقبة ومولته أموال النفط التي تدفقت سخية على ارض الكنانة لإشاعة ونشر وتعميم ثقافة التخلف والجاهلية والتطرف.. ثلاثة عقود أو أكثر شهدت "إخصاء" العقل والإبداع المصري وتآمر القائمون على الثقافة والإعلام مع أمراء النفط وشيوخه لتجريف ذاكرة مصر وسرقة كنوزها من أفلام ووثائق وأغان نادرة بل ومن الآثار التي لا تقدر بثمن أيضاً!!..تراجعت الثقافة وسيطر على التعليم أمراء الجهل وتجار الدين حتى باتت مصر أقرب إلى أن تتحول إلى إمارة من إمارات العصور الوسطى، قضيتها الأولى طول الجلباب ومقاس اللحية وحرمة مصافحة المرأة وغير ذلك من الخزعبلات التي تتحفنا وتحاصرنا بها الفضائيات التافهة كل يوم ..

ثلاثة عقود تاهت فيها مصر وفقدت ذاكرتها وهويتها وخيل إلى أن بهاء كان يبحث عنها وهو يحمل شمعته مساء الأربعاء.. ولحظتها قفزت إلى ذهني صورة الفيلسوف اليوناني دايوجين الذي كان يحمل مصباحا في عز النهار بحثا عن الحقيقة الضائعة..!! وقلت لنفسي إن مصر في حاجة لكل فلاسفتها ومفكريها اليوم وغدا ليحملوا مشاعلهم ويبحثوا عن مصر الحقيقية آناء الليل وأطراف النهار حتى تعود إلى أولادها الذين افتقدوها كثيرا..

نجم المظاهرة الأول وربما الأوحد كان هو الشيخ إمام بأغنياته الخالدة التي تصلح لكل عصر وأوان..غنى المشاركون "مصر يامه يابهية"..و"شيد قصورك..." و"رجعوا التلامذة ياعم حمزة"..وغنوا أيضا أغنيته العبقرية عن "بقرة حاحا التي وقعت في البير من عدم الشوف ومن كتر الخوف والتي سرقوا لبنها لأن أولادها..أولاد الشوم رايحين في النوم.."!

والأجمل أن يتصادف تاريخ المظاهرة مع مرور عشر سنوات على رحيل الشيخ إمام الذي لا يزال حاضرا بقوة رغم الغياب والذي أثبتت الأيام أن فنه الصادق حي ونابض بالحياة والثورة والدليل أنه كان هو القائد الحقيقي لمظاهرة يوم الأربعاء...إنه الدرس البليغ الذي لا يزال هذا الشيخ الضرير يلقنه كل يوم للمبصرين الذين لا يرون والأحياء الذين ماتوا وهم على قيد الحياة..!!

نعم..لا يزال الشيخ إمام يلهم المتظاهرين ويقودهم من ساحة الجامعة إلى ضريح سعد إلى نقابة الصحفيين التي ستشهد ليلة مصرية في حب الشيخ إمام يحييها رفيقاه على درب النضال نجم وعزة بلبع وآخرون..

وأخيرا.. أرجو ألا يكون هذا المقال بلاغا عن الشيخ إمام، القائد الحقيقي لمظاهرة الأربعاء، فيصدر قرار باعتقاله قبل الاحتفاء به وتكريمه في نقابة الصحفيين!!