الحديث عن دولة في الهواء
ترافقت احتفالات سلطة الحكم الذاتي، وبعض القوى السياسية، بالذكرى الحادية والعشرين لـ«إعلان الاستقلال» الذي تم في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر، مع إشهار الخطة المفاجئة «شكلاًً وتوقيتاً» بالإعلان عن خوض السلطة لـ«معركة سياسية ودبلوماسية من الطراز الأول» كما يقول محمد دحلان داخل الهيئات الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن) لـ«إصدار قرار بإقامة الدولة الفلسطينية بعدما استنفذت المفاوضات أغراضها من الناحية السياسية». ويبدو أن مصير الإعلان الأخير عن وهم قيام الدولة، لن يكون أكثر قيمة وواقعيةً من الإعلان عن «الاستقلال»، لأن الرهان على تحقيق الحلم، لابد أن يستند إلى جملة حقائق ووقائع على الأرض، وهو مايفتقده الجانب الفلسطيني الرسمي. وهو ماعبّر عنه كبير المفاوضين صائب عريقات بحديثه مع إذاعة جيش العدو مؤخراً أثناء رده على أسئلة المذيع (الفكرة تقول بالتوجه إلى مجلس الأمن ليعلن هذا القرار وليشكل بذلك مظلة دولية كبرى لقرار كهذا) مضيفاً (الهدف من هذا التحرك هو أن نعيد الأمل إلى قلوب الفلسطينيين).
من الواضح أن طرح هذه الفكرة الآن، قد تزامن مع وصول قيادة السلطة إلى الحائط المسدود، وفشل كل رهاناتها على ماستحققه «معركة المفاوضات» التي استمرت لما يقارب العقدين من الزمن، وفقدانها الأمل بالدور الأمريكي «النزيه» مع القادم الجديد للبيت الأبيض. وما يعترف به عريقات في حديثه الأخير يؤكد ماكانت تعلنه قوى العمل الوطني السياسية والمجتمعية على مدى سنوات (سئمنا المراوحة «الإسرائيلية» في المفاوضات المستمرة منذ 18 عاماً... منذ 18 عاماً ونحن نقول لشعبنا إنه فقط بالتفاوض والسلام ووقف العنف سنحقق حريتنا واستقلالنا... بعد 18 عاماً ما زال عباس في حاجة إلى استئذان «إسرائيل» ليغادر إلى عمان، وإذا أردت أنا أن أغادر أريحا إلى القدس لإجراء مفاوضات، يتحتم عليّ الحصول على إذن «إسرائيلي» للمغادرة). أما الحديث عن جدية الفكرة وما إذا كانت «مجرد تهديد مثل تهديد عباس بالاستقالة» فيرد كبير المفاوضين موضحاً (نحن أضعف من أن نهدد «إسرائيل»... أنتم الطرف الأقوى وأنتم قوة الاحتلال... نحن شعب تحت الاحتلال... عباس سئم أن تكون مهمته دفع الرواتب للموظفين وأن يكون مسؤولاً عن الصرف الصحي... آن الأوان لتتبنوا حل الدولتين... وإذا لم يتحقق هذا الحل، فستتحملون مسؤولية تفويت فرصة تحقيق السلام).
مع النشاط المحموم لقيادات السلطة وللقوى المؤتلفة في حكومتها ومؤسساتها، الهادف إلى تسويق «الفكرة» داخل الساحة العربية والفلسطينية، يتبادر لذهن المواطن العادي سؤال بسيط ومحدد: ألم تعلن القيادة في 15/11/1988 عن قيام الدولة كما تضمنه «إعلان الاستقلال»؟ فما الذي تجسد على أرض الواقع؟ كل ماعرفه شعبنا كان في الاعتراف المتتالي لأكثر من مائة دولة بالدولة الموعودة للفلسطينيين، والذي تجسد بافتتاح مكاتب للتمثيل الدبلوماسي، وتحويل بعض المكاتب الموجودة أصلاً لسفارات! أما الحقائق على الأرض فكانت تؤكد في كل لحظة أن قوات الاحتلال تستبيح كل شبر داخل مااعتقد البعض أنه أراضي الدولة. فلا سيادة ولااستقلال مع وجود المحتل. ولهذا فالدعوة/ الفكرة المطروحة الآن، تعيد إنتاج الوهم مجدداً، بكل مايحمله ذلك للبنية المجتمعية الفلسطينية من مشاعر الإحباط واللامبالاة تجاه المشروع القديم/ الجديد، الذي يقتل أمل الفلسطينيين بتحرير وطنهم. كما أن تطورات العقدين الأخيرين من عمر القضية الوطنية الفلسطينية، يؤكد أن تلك القوى المعبرة عن ذلك النهج الاستسلامي، عملت على النكوص والارتداد بمشروع التحرير الوطني، إلى أشكال استثنائية، برزت في صيغ مشوهة للكيان السياسي ومؤسساته المشكلة تحت هيمنة الاحتلال، وتحت مراقبته المباشرة. كما سيقود الحديث عن «الدولة الافتراضية» المتخيلة، إلى إلغاء برنامج تحرير الوطن من الاحتلال، والاستعاضة عنه ببحث قضايا الخلاف على الحدود والمياه مثلاً، كما صرح مؤخراً المفكر العربي عزمي بشارة.
على الجانب الآخر، تصدت حكومة العدو الصهيوني، بكل تلاوينها الحزبية والإيديولوجية، بعنف خطابي، تهديدي، لفكرة التوجه للمحافل الدولية للعمل على الدعوة لإقامة الدولة الفلسطينية، التي شجعت عليها لجنة متابعة المبادرة العربية. وقد جاءت تصريحات المجرمين الصهاينة، لتكشف عن حقيقة مواقفهم في رفض وصول أية أفكار تبحث عن مخارج لحالة الاستعصاء التي وصلت إليها السلطة وحكومة العدو، داخل الهيئات الدولية. وقد استند موقفهم على أن أية حلول تأتي من جانب واحد مرفوضة! ولكأن كل وجودهم الاستعماري/ الاحتلالي، وكل إجراءاتهم على أرض الواقع لم تكن من جانب واحد. إنها تبريرات الوقاحة والقباحة في أبشع صورهما.
من الواضح أن تلك الضجة التي رافقت طرح الفكرة/ المخرج، لاتعدو كونها محاولة لإعطاء دفعة جديدة من الحيوية والفاعلية لقوى السلطة للخروج من مأزقها الذاتي بعد الانتكاسات المتتالية التي عاشتها في الأسابيع الأخيرة، بدءاً بتأجيل النقاش لتقرير «غولدستون»، وانكشاف الموقف الأمريكي من قضايا بناء المستعمرات، ورغبة عباس بالاستقالة، ورفض لجنة الانتخابات المركزية لقرار عباس بإجراء الانتخابات في كانون ثاني/ يناير القادم. لقد دأبت قيادة السلطة على معالجة كل الأزمات التي لاتعصف بمكونات مؤسساتها ووجودها، بل وبالقضية الوطنية للشعب الفلسطيني، بالعقلية التي صاغت اتفاق أوسلو، وحولته إلى نهج وخطة عمل إستراتيجية. لقد أسقطت قيادة السلطة ومنذ عقود، الرهان على المقاومة المسلحة، كبند أولي على أجندة الكفاح الوطني الفلسطيني متعدد الوسائل. وبالتالي، فإن الأزمة المستعصية منذ سنوات، هي نتاج عقلية ونهج من راهن على المفاوضات وعلى خيار «السلام»، في الوقت الذي تمارس فيه قوات العدو الاحتلالية، بطشها وقتلها وحصارها للشعب الفلسطيني، واستباحتها لكل الأرض الفلسطينية.
إن المخاوف المشروعة لدى القسم الكبير من جماهير شعبنا وأمتنا من أن الهدف من طرح الفكرة/ المشروع راهناً، يأتي من أجل دفع قوى الضغط الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل لإقناع حكومة العدو الصهيوني للعودة لطاولة المفاوضات، بالترافق مع بعض الإجراءات الشكلية/ التجميلية من خلال رفع بعض الحواجز. كما أن الاندفاع بهذا الشكل من المراهنة على دعم دول أوربا وأمريكا اللاتينية للفكرة، لن يمنع عدداً من الدول الخمس الكبار في مجلس الأمن من رفض المشروع، وهو ماكشفت عنه تصريحات المسؤولين البارزين في الخارجية الأمريكية والفرنسية، خلال تأكيدهم على التمسك بالمفاوضات كمدخل لإقامة الدولة الفلسطينية.
أمام هذا المشهد، تزداد القناعة بأن اللحظة الراهنة تتطلب من كل القوى السياسية والمجتمعية الشروع الفوري بصياغة برنامج العمل السياسي/ الكفاحي الذي يعيد التأكيد على الثوابت الأساسية للشعب «حقه في تحرير وطنه وعودة اللاجئين المهجرين بفعل الاحتلال الاستعماري إلى بيوتهم وأراضيهم»، وبناء أداة الفعل الجامعة «منظمة التحرير الفلسطينية الملتزمة بالميثاق القومي/ الوطني»، وإعادة القضية الفلسطينية لحاضنتها العربية، على أساس كونها قضية عربية نضالية بامتياز.