حبال النهب حول رقاب المصريين

حبال النهب حول رقاب المصريين

تحرير سعر صرف الجنيه المصري، ورفع أسعار الفائدة والمحروقات في يوم واحد، هو الخيار الذي ظل حبيس النقاشات المطولة، بين مقرري السياسات الاقتصادية المصرية قبل اتخاذه، إلا أن ضغوط صندوق النقد الدولي، وانهيار سعر الصرف المستمر أمام الدولار، نحا بالحكومة اتجاه تسريع اتخاذه بوصفه «خياراً وحيداً» متاحاً لـ«تفادي» أزمة البلاد الاقتصادية.

 

يمكن ترجمة التروي الأولي، الذي ساد قبل اتخاذ هذا القرار، بإدراك الدولة لخطورة وصعوبة ضبط نتائجه اللاحقة، وتحديداً من الناحية الاجتماعية، لكن القرار تم اتخاذه في نهاية المطاف، مع العلم أن معظم المحاججات ضمن أوساط الاقتصاديين في مصر إزاء هذا القرار، أشارت فيما مضى إلى ضرورة بناء أرضية تضمن للدولة قدرتها على المشاركة والإشراف المستمر على العمليات الاقتصادية، قبل اتخاذ قرار كهذا يعتبر مصيرياً في تاريخ البلاد.

«مغامرة» ثمنها 12 مليار دولار!

أوصت كريسيتن لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، المجلس التنفيذي بالموافقة على طلب مصر الحصول على برنامج قرض بقيمة 12 مليار دولار، في اجتماعه خلال الأسبوع الماضي، 11/ تشرين الثاني، وقالت في بيان أعقب قرار التعويم في 8/ تشرين الثاني الحالي: «على مدى الأشهر القليلة الأخيرة، عكفت السلطات المصرية على برنامج إصلاح طموح، لوضع الاقتصاد على مسار مستدام، وتحقيق نمو مصحوب بخلق للوظائف».

وفي التاريخ ذاته، صرح محمد معيط، نائب وزير المالية لشؤون الخزانة العامة، لصحيفة «الشروق» المصرية: أن مصر ستحصل على الشريحة الأولى من القرض يوم الثلاثاء 15/ تشرين الثاني، على أن تحصل على باقي الشريحة الأولى 1.25 مليار دولار، قبل نهاية العام المالي الحالي 2016/ 2017.

«إنجاز» وحيد ومرحلي

أحد الأسباب الرئيسة لتحرير سعر الصرف، إلى جانب قرض صندوق النقد الدولي، مقترن بإنهاء المضاربات على سعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما حدث بشكل جزئي بعد ساعات من صدور القرار، قبل أن تعود أنباء تتحدث عن فرق جديد بين تسعير البنوك والمصارف من جهة، والسوق السوداء من جهة أخرى، ولصالح السوق السوداء بفروق وصلت إلى «30 قرشاً» يوم الأربعاء 9 تشرين الثاني. وتجدر الإشارة إلى أن أفضل التوقعات بشأن خفض المضاربات في السوق السوداء لم تتجاوز 50%.

من وجهة نظر الحكومة، فإن إنهاء المضاربات هنا، يعني إنهاء قدرة السوق السوداء على تحصيل أرباح خيالية، من الفرق بين تسعير البنك المركزي، والقيمة الحقيقية للجنيه مقابل العملات الصعبة، لكنه لا ينهي بأي حال من الأحوال، قدرة السوق على التحكم اللاحق بأسعار الصرف، أي أن القرار عملياً هو: مجاراة جهاز الدولة لقوى السوق في المعركة الدائرة بينهما حول تسعير النقد.

العملية نجحت مرة، والمريض يموت كل يوم! فالتعويم الذي يعني بمضمونه: كف يد القطاع المصرفي الحكومي عن التحكم بعمليات التسعير، وترك القرار لـ«تفاعلات العرض والطلب» في السوق، يعني: أن قوى السوق، وجهاز الدولة، دخلا معركة جديدة، عمادها: من يستطيع التحكم بآليات العرض والطلب، والتي تبدو نظرياً محسومة لصالح قوى السوق، التي حازت في المرحلة السابقة على كميات كبيرة من القطع الأجنبي، والاستمرار في الاعتماد على المستثمرين في تأمين المستوردات، حتى الغذائية منها، في مقابل إمكانات منخفضة للدولة في تأمين البضاعة، أو المؤسسات الكافية لتوازن الأسعار.

نحو رفع الدعم الحكومي

إلى جانب قرار تعويم الجنيه، وفي اليوم نفسه، اتخذت الحكومة قراراً برفع أسعار البنزين بنسبة 47%، والسولار 30%، وغاز السيارات 45%، ومعدل ارتفاع 87% للغاز المنزلي لاستهلاك الشريحة الدنيا، وسط إقرار حكومي بنية رفع الدعم عن المحروقات، والكهرباء والنقل والأدوية، تماشياً مع توصيات صندوق النقد الدولي من جهة، ونقص موارد الخزينة من جهة أخرى، بعد انخفاض مستوى المساعدات المالية الخليجية، واستمرار شلل القطاع السياحي في البلاد، كرافد مالي لخزينة الدولة، بالإضافة إلى اعتماد البلاد على حاجاتها الصناعية والغذائية من الخارج.

وفي النتائج الأولية لرفع أسعار المحروقات، رصدت الصحف المصرية بعضاً من تبدلات أسعار البضائع، وخصوصاً الغذائية منها، التي طالتها زيادات في الأسعار قدرت بأكثر من 15%، ومنها ارتفاع سعر الزيت بـ6 جنيهات للتر الواحد، وكيلو الفول بـ5 جنيهات، والعدس بـ5جنيهات، وعلبة التونة بـ3 جنيهات، واللبن بـ 4 جنيهات للعلبة، والخضروات من 2 لـ 4 جنيهات بحسب السلعة.

بدورها، رصدت وحدة البحوث في الغرف التجارية، تحرك أسعار بعض السلع في السوق، بنسب متفاوتة، وصلت في بعض المنتجات إلى زيادة بنسبة 30%.

وطالت الزيادة قطاعات أساسية أخرى كقطاع الأدوية، إذ قال رياض أرمانيوس، نائب رئيس مجلس إدارة غرفة صناعة الأدوية: أن القرارات الأخيرة أدت إلى رفع تكلفة إنتاج الأدوية بنسبة 50%.

من جهته، قال وزير النفط، طارق الملا، لوسائل الإعلام في 5 تشرين الثاني الحالي: أن الدعم المستهدف للمواد النفطية في السنة المالية الحالية كان 35 مليار جنيه مصري، على أساس سعر صرف الدولار عند 9 جنيهات، لكن مع التعويم وارتفاع أسعار النفط سيصل الدعم إلى 64 مليار جنيه، وبمقارنة بين مخصصات الدعم قبل التعويم، وما بعده، نجد أن الدعم انخفض عملياً، فنسبة 35 مليار جنيه/ 9 جنيهات للدولار، أكبر من 64 مليار جينه/ 18 جنيه للدولار، وهي نسبة الدعم إلى سعر الصرف الحالي.

يبقى سعر الصرف الذي يؤثر بدوره على أسعار المنتجات، مرهوناً بحقائق لا تقبل التأويل، فالأزمة مستمرة طالما أن الإنتاج الصناعي والغذائي، والسياحة، والاستثمارات الداخلية متوقفة، والتعويل المستمر على «وعي الشارع المصري»، في فهمه لـ«ضرورات» الحكومة، والصبر على استمرار هذه السياسات هو رهان غير واقعي، وهنا، يمكن القول: أن استمرار صناع القرار الاقتصادي في محاولات تهدئة الخواطر الشعبية بات غير مضمون بنتائجه كلياً، في ظل الأوضاع المزرية التي وصل إليها الشارع المصري، ومن المؤكد أن استثمار النقمة الشعبية،  والاستناد إليها، في اتخاذ إجراءات عنيفة اتجاه قوى الفساد في داخل جهاز الدولة وفي المجتمع، بات الحل الأمثل وربما الوحيد لإبعاد مصر، عن شبح اضطرابات يصعب التحكم بها، في ظل توازن القوى الداخلي، والمحيط بمصر على حدٍ سواء.