التوقيت الأمريكي لغياب الزرقاوي!
مهرجان ضخم وقرع طبول وأغان صادحة وموسيقى صاخبة تُعزف البوب والروك، والجاز، والهيوة، والهجع، حتى اللمبادة كانت حاضرة، بالونات مزركشة، سُحب اصطناعية ملونة تغطي سماءنا، رؤساء (أعظم الدول) يهنئون العالم وشعوبهم وشعب العراق، حكومة العراق (الدائمة) تفتتح وتدشن عهدها بقضاء منصبيها المحتلين على عدو ها وعدو (العالم المتحضر)، خليل زادة ونوري المالكي وموفق الربيعي وفيق السامرائي ورامسفليد وبلير مستبشرين ويدعون إلى نسيان الماضي والأخطاء والنظر إلى أمام، إلى المستقبل الواعد بعد مقتل الزرقاوي، فهنيئاً لك يا شعب العراق!
هكذا بدا المشهد الإعلامي والسياسي اليوم على اثر الإعلان عن (النجاح العظيم) لقوات الاحتلال في (اصطياد) ابومصعب الزرقاي! إن هذا المشهد وبالكثير من تفاصيله، والتحضيرات التي سبقته تذكرنا بيوم إعلان إلقاء القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
إن مشهد الحالة العراقية ومأزومية وضع الاحتلال وحالة الاختناق السياسي الداخلي الذي تعيشه الإدارة الأمريكية والفشل المتوالي لمحطات مشروعها السياسي في العراق، وتعثر بدائلها وخياراتها، دفعها ويدفعها للبحث عن نجاح، واختلاق انجاز، أي انجاز حتى لو كان قتل رجل واحد، ليحملوه كاهل فشلهم السابق! ولينسبوا له أسباب (أخطائهم الكثيرة)، وليعلقوا على شماعته اتساع وتعمق العنف الطائفي وإغراق شوارع العراق بدماء أبنائه.
إن العراقيين يفقهون طبيعة الفصل الجديد من مسرحية الدم الجارية، لقد كان قبل أيام حصار الضلوعية واقتحامها وإبادة العديد من المدنيين الأبرياء، واليوم لازالت الرطبة محاصرة ويجري الإعداد لاقتحامها، والرمادي تحاصر بآلاف من الجنود الأمريكان وعناصر المليشيات المسلحة، أما مناطق في بغداد وما حولها ، فبدأت تشهد بما يسمى خطة أمن بغداد لفك الطوق. إنها جرائم جديدة ستقترف، بحق أبناء شعبنا، والتي جاء توقيتها مع تشكيل حكومة الاحتلال الدائمة التي حملت معها أسباب فشلها وإخفاقها منذ يومها الأول، فكانت وبلا فخرٍ حكومة دائمة لعراق مؤقت وموقوت، مؤقت بحالته ومشاهده الدموية، وموقوتٍ بمرجل الغضب الشعبي، المتصاعد بمقاومته والمقارع بمناهضته للاحتلال وأحزابه ومريده من العراقيين.
لقد حُشرت إدارة الاحتلال وحكومتها مؤخرا، بالكشف الإعلامي الواسع لبعض جرائم الاحتلال في حديثة والإسحاقي، وقبلها في الفلوجة وسامراء وتلعفر، وأصبح الضغط السياسي الداخلي على إدارة بوش أكثر عمقاً، وأمست المطالبة بكشف حساب الحرب والاحتلال واسعة في أوساط أساطين السياسة الأمريكية، حتى بين الذين أيدوا الاحتلال من سياسيين ومفكري المؤسسات الرأسمالية الاستراتيجية، وازدادت بالوقت نفسه نوعية وكمية أعمال المقاومة العسكرية الموجهة لعساكر المحتل ومواقعه، ومع اقتراب انتخابات الكونغرس، يجد أقطاب الجمهوريين وطغمة الحرب الحاكمة، أنفسهم في مأزق سياسي يستدعي نجاحاً ما وانجازاً مدوياً، حان وقت إعلانه، بتمكنهم صدفة أو بسبب معلومات استخباراتية من شخص الزرقاوي، الذي وصم وتنظيمه من قبل الاحتلال وأحزابه بأنه المسؤول الأول عن قتل العراقيين، وبقتله سيتغير مسار الحرب، ويشهد العراق استقرارا نسبياً.
الثابت والمتحول في حسابات المحتلين وأعوانهم
من الواضح أن الاحتلال قد أعاد النظر بحساباته، وهذه الإعادة لا تعني تراجع عن ثوابته التي ترتكز على مشروعه المعلن والذي يعاني أساساً من مأزق بنيوي يصعب تجاوزه، دون مضاعفات قد تؤدي إلى انهيار المشروع بأكمله. ولم يعد ذلك سرا بعد أن استنجد بوش بحكماء واشنطن وعرافيها لمساعدته في إيجاد حلول تكتيكية مناسبة للانسدادت التي تعرقل استكمال المراحل اللاحقة منه، كانت لقاءاته التشاورية والاستشارية التي جمعته مع عتاة السياسة الاستراتيجية الأمريكية وخبرائها المتمرسين من أمثال كيسنجر وبيكر وشولتس واولوبرايت وباول، ليس سرا أن الجميع متفق على أن أي تراجع استراتيجي يعني نكبة للسياسة الأمريكية ليس في العراق والشرق الأوسط لوحدهما، وإنما في العالم أجمع. وعليه أجمع الجميع على مواصلة الطريق نحو الهدف الذي يتحدد بالهيمنة على مصادر الطاقة الفعالة في العالم بطرق متنوعة، منها إقامة الشرق الأوسط الكبير الذي يضمن موقعا مزدوجا لإسرائيل تكون فيه كوكيل محلي للمالك الأول أمريكا! ويمنع أي تجاوز طاقوي للقوى المنافسة في السوق والتي قد تهدد الزعامة الأمريكية على العالم.
إن هؤلاء ساعدوه ناصحين على اللعب الحذر في المجالات التي تتقبل التحول ولكن بآليات تختلف عن التي استخدمتها إدارة بوش في البداية، آليات لا ثبات فيها، وتكتيكات تناور وتحاور وتشتري وتبيع، إن كانت في أفغانستان أو العراق. وقد استجابت إدارة بوش لهذه النصائح لما لها من مردود داخلي وخارجي. ففي الداخل تعطي انطباعا أن الإدارة جادة في إنهاء حالة التردي في الموقف الأمريكي بالعراق تحديدا وهذا يخفف من وطأة الضغوط عليها. أما خارجيا فإنها باعترافها بالأخطاء الجانبية والظهور بمظهر النادم والتائب، إضافة إلى المرونة في سياسة العصا والجزرة مع المناهضين والمقاومين في العراق، مع المزيد من خلط الأوراق وتبريز البعد الطائفي والمناطقي، كسبب عراقي داخلي لا تتحمل مسؤوليته أمريكا، بل بات وجودها وإعادة انتشار قواتها وسحبها من المدن بقواعد خاصة بها على الأرض العراقية هو صمام أمان للعراق وشعبه من تسلط "الإرهابيين" على الوضع في حالة الانسحاب الأمريكي الكلي!
سيشهد العراق تحولات في تكتيك السياسة الأمريكية فيه، يؤجج الانقسام العراقي، ويبقي على أمريكا كحامية مطلوبة لأمن البلاد ووحدتها!؟
وعليه فإن غياب الزرقاوي وتوقيته هو متغير تكتيكي في تفاصيل الحدث العراقي، يمنح لقوى الاحتلال جرعة مطاولة في صراع الإرادات الجاري في العراق.
لكن رغم ذلك فإن القوى المناهضة والمقاومة بمختلف مشاربها، ما زالت تمتلك زمام المبادرة في الصراع، كونها تمتلك كل أسباب وجودها وشرعية قضيتها، وهي أنصع وأقوى من أن تؤخذ على حين غرة، مهما حصل من تناقضات وهجمات وألاعيب وتوقيتات مأذونة وغير مأذونة، فحساب البيدر لا يطابق بالضرورة حساب الغلة!